لبنان مشروع ضحية، سواء انخرط «حزب الله» بالكامل في حرب غزة عبر جبهة الجنوب أم بقيت اللعبة محسوبة في حدود «قواعد الاشتباك». الإنخراط يربك إسرائيل ويدميها ويلحق بها أذى ودماراً كبيرين، لكنه لا يمنع العدوّ من تنفيذ تهديده بإعادة لبنان الى «العصر الحجري». والاشتباكات المحدودة تدار من موقع التصرّف على أساس أن البلد مجرّد مساحة جغرافية وظيفتها أن تكون «جبهة أمامية» في حرب دائمة، بحيث يضيف «حزب الله» الى دور «المقاومة الإسلامية» بقيادته دور المنظمات الفلسطينية المرتبطة بإيران، وفي طليعتها حركة «حماس» و»الجهاد الإسلامي».
والذاكرة لا تزال طرية حول الثمن الكبير الذي دفعه لبنان في تجربة الكفاح المسلّح الفلسطيني لتحرير فلسطين انطلاقاً من الجنوب. ولا أحد يجهل معنى تحويل لبنان مجدّداً من وطن الى «ساحة» وسط التوجّه العام في العالم العربي نحو التنمية المستدامة وبناء الدولة الوطنية. «ساحة» ضمن «وحدة الساحات» التي يديرها «محور المقاومة» بقيادة طهران من أجل مشروع إقليمي يتطلّب في المرحلة الأولى تحويل الأوطان العربية الى «ساحات». وهو مشروع يحذّر خصومه من أن يقود، لا الى تحرير فلسطين بل الى حرب أهلية عربية بين الأكثرية والأقلية.
والمشهد أمامنا ومن حولنا مخيف. لبنان أسير في مأزق الرئاسة. غائب منذ عملية «طوفان الأقصى» المزلزلة في إسرائيل والردّ بحرب مدمّرة في غزة. لا عنوان له بالنسبة الى العالم سوى «حزب الله» الذي تدور الاتصالات معه بالواسطة أو مباشرة، ويتمّ تقديم كل التحذيرات له من فتح جبهة الجنوب. لا برلمان، لا حكومة، لا قرار 1701. لا قوات دولية. رئاسة شاغرة. خراب سياسي فوق انهيار مالي واقتصادي. أزمة اجتماعية قاسية، وسط أزمة مصيرية وخطر وجودي. وكل مواقف السياديين والتغييريين والوسطيين والمرجعيات من كل الطوائف والمناطق والدعوات الى عدم توريط لبنان في حرب مدمّرة، تبدو كأنها أصوات صارخة في البرية. مجرّد «ظاهرة صوتية» على حدّ التعبير الذي صكّه عبد الله القصيمي.
ذلك أن قرار «حزب الله» حول الانخراط أو اللاانخراط في الحرب مبني على حساباته وحسابات مرجعيته الإقليمية، لا على حال لبنان. هو يعلن أنه جاهز للمواجهة الشاملة في حرب لإزالة إسرائيل، وإن لم يكن البلد جاهزاً حتى لانتخاب رئيس والحدّ من الانهيار. ومجرّد التصرّف على أساس أن لبنان «ساحة» في صراع جيوسياسي واستراتيجي يجعله مشروع ضحية من دون حرب. فلا مجال لبناء دولة في «ساحة». ولا فرصة حتى لقيام سلطة قادرة على الحدّ الأدنى من فرض الهيبة، وراغبة في إجراء إصلاحات سنبقى من دونها محكومين بالبقاء في هاوية عميقة. وكل هذا قبل الخطر الديموغرافي الزاحف وخطر الحرب والمواجهة مع العرب والغرب، لا فقط مع العدو الإسرائيلي.
يقول جمال حمدان في كتاب «شخصية مصر» إن «التاريخ هو لسان الجغرافيا». لكن الجغرافيا في لبنان يتمّ توظيفها في إلغاء التاريخ لحساب أسطورة.
نداء الوطن