دخل لبنان مرحلة تعيد إلى الأذهان اتفاق القاهرة، الذي أعطى للكفاح الفلسطيني حق القيام بعمليات عسكرية انطلاقاً من الجنوب اللبناني، أو أنّ منطلق الاتفاق لا علاقة له بمن اجتمع لأجل القضية الفلسطينية في ستينات العقد الماضي على حساب لبنان وأمنه واستقراره؟
فاليوم لا لزوم لإجماع عربي ما دامت مصادرة السيادة قائمة ولا مفر منها. المهم مباركة رأس الممانعة للاتفاق المستحدث. وبالتأكيد، يبقى اللبنانيون فيه حرفاً ساقطاً، لا وجود لهم شعباً ودولة ومؤسسات، ولا حساب أو اعتبار لإرادتهم وانقساماتهم وهواجسهم وقلقهم على المصير والتهجير. ولطالما كان الأمر كذلك مع المحور ورأسه وأذرعه. هكذا هو مفهوم «توحيد الساحات» أو بتعبير أدق «استخدام الساحات»، ما دام الدم المراق عربياً، بل عربياً فقط.
وفي حين يتمّ التنسيق بين رأس المحور ومن تتطلب مصلحته التشاور معهم، بدأ توسيع الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني، ومعه التفريغ السكاني، وبدأت العودة الفعلية والميدانية للكفاح المسلح بلبوس حركة «حماس» والجهاد الإسلامي» ومعهما من يدور في هذا الفلك إلى هذا الشريط، وعادت صواريخ القسام اللبنانية كجزءٍ لا يتجزأ من المعركة، وبترتيب وتنسيق ورضى من «حزب الله»، وبالحدود المطلوبة لمصالح المشروع الأعلى.
ليس مهماً واقع أنّ لبنان لا يملك مقومات الصمود والتصدي لمواجهة تبعات العدوانية الإسرائيلية المباركة دولياً، المهم أنّ القرار اللبناني بات في يد رأس المحور. وزير خارجيته يتحرك بمعطياتنا ويتكلم بلساننا ويدير معاركنا ويحدد قواعد اشتباكنا فيقلصها أو يوسعها وفق متطلبات أجندته، والمسؤولون اللبنانيون مستسلمون ومسلِّمون بهذا الواقع. وكذلك «حزب الله» الملتزم حتى ساعته بالتعليمات، وبالغموض والصمت وغياب المنابر المعهودة... وعلى غير عادة.
لا وجود لعبارة الشرعية اللبنانية في القاموس الممانع، الذي قلب المعادلات السياسية والأمنية والدستورية والبديهية، وفتح على مرحلة جديدة في لحظة مفصلية دامية وخطيرة، ليفعِّل العمل العسكري الفلسطيني انطلاقاً من أرض لبنان.
ويبدو أنّ هذا التفعيل سيتكرّس مع تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة. لم يعد مهماً أن يفتح «حزب الله» حرباً واسعة وشاملة، فحروب الاستنزاف لها فوائد أكبر ربما، وتخدم رأس المحور عندما يريد ابتزاز الولايات المتحدة الأميركية، أو ليلوِّح باستخدامها، وحينها اللبيب من الإشارة يفهم. وهو يفهم ويتناغم ويعلن أن لا دلائل على تورط إيران في «طوفان الأقصى». وإيران بدورها تقدّم السياسة والدبلوماسية إلى واجهة المشهد، وتبقي العسكريتاريا والناطقين باسمها وحرسها الثوري ومعه «فيلق القدس» في الخطوط الخلفية.
بالتالي، تحافظ إيران على المعادلات الإقليمية متماسكة بينها وبين دول الخليج، وأيضاً تحفظ المعادلة مع الولايات المتحدة من دون تصدعات عميقة. وهي تستطيع تحقيق هذا التوازن، ما دام الجنوب اللبناني يؤمِّن لها مرادها، وما دام توسيع حركة أذرعها فيه متاحاً وفق إيقاعها، وما دامت الضربات الانتقائية من جانب أذرعٍ إضافية متوفرة عبر الحوثيين والحشد الشعبي.
ما يعني أنّه لدينا شريط عسكري مستحدث على جانبي الحدود بين لبنان وإسرائيل، يشكل قاعدة متقدمة للمحور، ولا يفسد في الود قضية ولا يزعج رأس المحور. وعلى اللبنانيين أن ينصاعوا. وعلى أهالي الشريط الذين لا يريدون أن يرتقوا شهداء أن ينزحوا، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع حقبة «فتح لاند».
ومن يفرض هذا الشريط بدأ يروج إلى أنّه يجنّب لبنان حرباً شاملة مدمرة، وأنّه يراعي مصلحة اللبنانيين، عليهم أن يستكثروا بخيره ويقدموا له آيات الشكر والامتنان. أما إذا حصل ما لا تحمد عقباه وأفلتت الأمور من قواعد الاشتباك وصولاً إلى أكثر من ذلك، فحينها لا حول ولا قوة... وسامحونا.
*المصدر: نداء الوطن