في تهديده بتنفيذ عملية عسكرية ساحقة ماحِقة في غزة، يبدو بنيامين نتنياهو وكأنه عالق فوق، في مكان ما على الشجرة، وهو يمد اليد لأيّ كان كي يساعده على النزول!
العملية الإسرائيلية الموعودة في غزة يُفترض أن تكون ضخمة بكل المقاييس، وأن تكون تردداتها هائلة. وإسرائيل لا تستطيع أن تتورط فيها ما لم تكن قد درست كل الاحتمالات، لئلّا تقع في خطأ الانزلاق غير المحسوب.
لا يستطيع نتنياهو أن يمرر عملية «حماس» التي نفذتها في 7 تشرين الأول من دون رد صاعق يُعيد إليه وإلى الدولة في إسرائيل خسارة معنوية فادحة. ويسري في الإعلام الإسرائيلي كلام مفاده أن مرور هذه العملية من دون عقاب يعني انكسار إسرائيل النهائي والدائم في صراعها التاريخي مع الفلسطينيين، لأنهم سيشعرون بعد اليوم بأنهم حطّموا سمعة التفوّق العسكري الإسرائيلي، وأنهم قادرون في أي لحظة على تنفيذ عملية بحجمها، أو أكبر منها، في غزة أو الضفة الغربية أو أي مكان آخر.
إذاً، يريد نتنياهو رداً مُزلزلاً على «حماس» في غزة. لكن تحقيق هذا الهدف يتأخر يوماً بعد يوم. وقد دخلت التحضيرات لعملية برية في غزة أسبوعها الثالث، من دون أي أفق لموعد.
ومع كل يوم تأخير، تبرد الأعصاب الملتهبة، ويتاح للرأي العام الإسرائيلي استيعاب الصدمة: 1400 قتيل وآلاف الجرحى و240 أسيراً وهزيمة عسكرية نكراء.
في علم النفس، هناك مراحل عدة يقطعها المرء عند تلقّيه صدمة الخسارة. ففي الأولى هو ينكر ما حدث ولا يصدقه، وفي الثانية هو يرفضه ويحاول الرد عليه والتخلص منه، وفي الثالثة يرضخ للأمر الواقع ويعترف بالخسارة ويبحث عن سبيل لاستيعابها وتقليص التداعيات. وعامل الوقت هو الذي يتكفّل بإنضاج الانتقال من مرحلة إلى أخرى.
اليوم، بعد أسبوعين من عملية «الطوفان»، تجاوزت إسرائيل مرحلة الصدمة، وهي انتقلت إلى المرحلة التالية، أي الرفض والبحث عن سبيل للرد. ولكن، إذا تأخرت الخطوة الإسرائيلية أسبوعاً إضافياً أو اثنين أو شهراً أو اثنين، فهذا يعني انتقالها إلى مرحلة الرضوخ والاعتراف بالواقع. وهذا الاتجاه لم يعد مستبعداً.
وهنا يجدر التوقف عند واحدة من قواعد العمل العسكري. ففي خلال المعارك أو بعد تنفيذ العمليات الخاطفة، إيلاء الأسرى أولوية، لأن الرأي العام وذوي هؤلاء يمارسون الضغوط على الحكومة لتحرير أبنائهم. وهذا العامل مؤثر جداً في الخطوات التي يُنتظر أن تسلكها حكومة نتنياهو. فمن المعروف أن إسرائيل تولي أسراها وجثامين جنودها ومواطنيها أهمية فائقة، وقد اعتادت مبادلتهم بالمئات أو الآلاف من الأسرى الفلسطينيين والعرب.
واللافت أن إسرائيل، وفيما تجمّد عمليتها العسكرية الموعودة في غزة، تجري مفاوضات صامتة مع «حماس» حول الأسرى. وقد بدأ الإفراج عن هؤلاء من حمَلة الجنسية الأميركية. وعلى الأرجح، ستتدرج المفاوضات لتصل لاحقاً إلى حمَلة الجنسيات الغربية عموماً. وهذا العامل سيكون أساسياً في دفع واشنطن وحليفاتها الأوروبيات إلى إقناع إسرائيل بالتريّث، إضافة إلى خوف الأوروبيين من ارتدادات سلبية لعملية غزة على داخل بلدانهم، في شكل عمليات إرهابية.
لقد عبّر الرئيس جو بايدن وشركاؤه الغربيون عن دعم غير مسبوق لأمن إسرائيل، لكنهم عملياً يمسكون بيَدَي نتنياهو لئلا يبدأ مغامرته في غزة.
ولكن، في المقلب الآخر، هناك معادلة مشابهة إلى حد بعيد. فإيران تطلق الإشارات التي تؤكد أن أبوابها مفتوحة للتفاوض، لا في غزة فحسب، بل أينما كان. واللافت أن جبهتها السياسية والإعلامية تبقى باردة إجمالاً. وهي، إذ تقود خطوات حليفها الفلسطيني لتحقيق المكاسب، فإنها تتحسّب لعدم إحراق أوراقها على الجبهات الأخرى، بدءاً من الجنوب اللبناني.
أي انّ إيران، من جهتها، تمسك بأيدي حلفائها لئلا يتورّطوا ويورطوها في منازلة غير مدروسة.
وفي الانتظار، ستجد اسرائيل أنها ربما تكون قادرة على تثمير تهديداتها بعملية برية، بتهجير الغَزيّين وإنضاج فكرة «الترانسفير» إلى سيناء، بهدف تصفية القضية الفلسطينية.
الأميركيون يؤيدون هذه الفكرة، لكن بايدن في العام الأخير من ولايته، لا يبدو مستعداً لإحراق مراكبه مع السعودية ومصر والأردن وسائر العرب دفعة واحدة، إذا لم يوافقوا على الفكرة. وفي أي حال، ستكون هناك حاجة إلى مفاوضات عميقة نجحت إيران في دخولها من الباب الواسع، عند قيام «حماس» بعمليتها.
وفي اعتقاد بعض المتابعين أنّ أحد أهم الأسرار في مجريات غزة اليوم هو أن إسرائيل و«حماس» تتقاتلان، ومعهما يَستنفر «حزب الله» والحوثيون وسائر حلفاء إيران في المنطقة، فيما خط التواصل لم ينقطع بين واشنطن وطهران.
للتذكير، في المرحلة التي سبقت توقيع اتفاق فيينا حول ملف إيران النووي، العام 2015، كان الأميركيون يتوجهون بتهديدات إلى الرئيس السوري بشار الأسد ويُنذرونه بالعقوبات إذا تعرض المدنيون في سوريا للخطر. ولكن، فعلياً لم يتعرض الأسد لأي عقاب، لأنّ المفاوضات كانت تدور تحت الطاولة بين إدارة باراك أوباما وطهران.
اليوم، يتفاوض الطرفان مجدداً، أيضاً تحت الطاولة، وقد يفاجأ الجميع بصفقة جديدة على غرار صفقة تبادل الرهائن والإفراج عن الأرصدة، قبل فترة. فالتفاهم مع طهران هو أحد المرتكزات الأساسية لنهج بايدن، نائب أوباما، في الشرق الأوسط.
ولذلك، واشنطن لن تقاتل طهران، لا في غزة ولا في بيروت ولا في سواهما. ولا إيران ستفعل، على رغم الغبار الكثيف المتطاير للتغطية.
*الجمهورية