تغطية تطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الإعلام الروسي الموالي للسلطة، تتميز منذ العهد السوفياتي، بالعودة إلى جذوره التاريخية الممتدة إلى أواخر القرن التاسع عشر. وتترافق التغطية دائماً باتهام الغرب بتأجيج هذا الصراع وقصور مبادراته للتسوية، خدمة لمصالحه الخاصة، ولغياب توازن الموقف من الطرفين.
أما الإعلام الروسي المعارض للسلطة، ومنذ العهد السوفياتي أيضاً، فيتميز بالمزايدة على النخب الغربية الحاكمة بتأييده لإسرائيل، ولا يتواني عن وصف الصراع بأنه بين الحضارة والتوحش. وتصاعدت لهجة هذا الإعلام بعد هجوم حماس في الخريف المنصرم، وبلغ الأمر ببعض مواقعه المتطرفة إلى وصف الفلسطينيين بـ"أكلة لحوم البشر". ويرد البعض تطرف الإعلام الروسي المعارض هذا إلى عاملين أساسيين: أولاً، تمويل الغرب وجهات إسرائيلية لمعظم مواقع هذا الإعلام، ما عدا تلك التي يمولها الأوليغارشيون الروس (كاسباروف، خاداركوفسكي، بيريزوفسكي). وثانياً، حدة التناقض بين الكرملين والمعارضة، والذي تميز دائماً بعنف السلطة في قمع الحريات ومصادرة السياسة.
يروق للكثيرين في أوساط النخب العربية تفسير موقف المعارضة الروسية بكثافة العنصر اليهودي في صفوفها ومواقع إعلامها، وهذا واقع معترف به، وليس في إعلام المعارضة فحسب، بل والسلطة أيضاً. ويتباهى الكثيرون من أبرز وجوه إعلام الكرملين بحيازتهم جواز السفر الإسرائيلي وبانتمائهم اليهودي. وليست بعيدة الضجة التي أثارها بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، عضو المجلس اليهودي الروسي وأحد وجوه إعلام السلطة المعروفين، يفغيني ساتانوفسكي، والذي أعلن ولاءه لإسرائيل، وهاجم "إنحياز" روسيا إلى الفلسطينيين.
لكن تفسير بعض النخب العربية هذا يعفي السلطة الروسية مما ترتكبه من مصادرة الحريات وممارسة العنف بحق المعارضة وتصفية قادتها وزجهم في السجون أو نفيهم. كما يتغافل عما ينطوي عليه "الإنحياز" الروسي إلى الفلسطينيين من مصالح جيوسياسية روسية في المنطقة، كشفت عن وجهها في مأساة الشعب السوري.
تجاوز الإعلام الروسي ما نشره مؤخراً مندوب أوكرانيا الدائم في الأمم المتحدة عن إحتمال رحيل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، واكتفت وكالة "تاس" الروسية وسواها من المواقع الإعلامية بنشر سيرة حياة الرجل. ولم يكن هذا الإعلام موحداً في تغطيته لجبهة الحرب الإسرائيلية الجديدة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. لكنه يبقى في سياقه العام أميناً لتوجهه التقليدي القديم في العودة إلى تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وتحميل الغرب المسؤولية عن نشوئه وحروبه المتناسلة.
الموقع الروسي Pronedra نشر نصاً، عرض فيه رأي خبير روسي حول العملية الإسرائيلية الحالية في الضفة الغربية. استهل الموقع نصه بالقول أن إسرائيل بدأت العملية العسكرية الأضخم في الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة. ورأى أن قرار القيام بالعملية أملاه تصاعد الميول الراديكالية وسط الفلسطينيين والخطر المتزايد من جانب إيران. إلا أن العملية الإسرائيلية أثارت قلقاً جدياً على صعيد العالم الذي يعتبرها تهديداً جدياً لاستقرار المنطقة، ودورة عنف جديدة. وهدف العملية الذي أعلنته إسرائيل ـــ تدمير البنية التحتية للإرهاب المدعوم من إيران.
يستعرض الموقع ردود الأفعال العالمية والتحذير الأميركي بشأن الضحايا المدنيين، وكذلك رأي الفلسطينيين بالعملية. ويقول بأن آراء الخبراء الروس اختلفت بشأن الأسباب الحقيقة للعملية وعواقبها. ونقل عن المستشرق Andrey Ontikov قوله بأن إسرائيل تستغل توتر الوضع في الضفة الغربية كحجة لتصفية العناصر الراديكالية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. ويرى أن إسرائيل تضخم خطر إيران، محاولة بذلك تبرير سلوكها أمام المجتمع الدولي.
من جهته، المتخصص الروسي بالشؤن السياسية Danil Krylov يرى أن تصرفات إسرائيل، هي إستراتيجية مدروسة لمنع الهجمات المحتملة من قبل الجماعات الموالية لإيران. والعملية في الضفة تختلف، برأيه، إختلافاً كبيراً من حيث إتساعها وأهدافها عن عمليتي غزة وجنوب لبنان. وتسعى إسرائيل لخفض المخاطر وعدم تكرار ما جرى في تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
تتفق صحيفة الإزفستيا المخضرمة، مع الموقع السابق والمواقع الروسية الأخرى، على أن العملية الإسرائيلية في غزة، هي الأكبر منذ عملية "الجدار الواقي" العام 2002. وترى أن إسرائيل اتخذت قرار القيام بها لمنع الهجوم عليها من الجهة الشرقية.
تعرض الصحيفة آراء عدد من الخبراء الروس، ومن بينهم المستشرق السابق Ontikov. ومما أضافه المستشرق إلى رأيه السابق، قوله بأن تصاعد ميول الفلسطينيين الراديكالية، يعود إلى الوضع الإقتصادي وحجم البطالة المرتفع. ورأى أنه ليس من الواضح إلى متى ستستمر العملية الإسرائيلية في الضفة الغربية. وإذا ما نظرنا إلى العملية في غزة، فمن شبه المؤكد أن العملية ستطول كما سابقتها.
ويقول المستشرق بأن إسرائيل قامت عملياً بفتح جبهة ثالثة في الحرب، بعد غزة وجنوب لبنان. ويرى أنه من الصعب الجزم بقدرة الإسرائيليين على خوض الحرب على ثلاث جبهات لمدة طويلة. وينسب إلى الإعلام العربي إشارته إلى أن تمديد أمد الحرب في الضفة الغربية سيؤدي عملياً إلى النزوح القسري للفلسطينيين.
Danil Krylov السابق ذكره لا يشكك في استطاعة الإسرائيليين خوض حرب على ثلاث جبهات، بل بوسعهم فتح جبهة ثالثة "صغيرة جداً" في هذه المرحلة. كما يرفض أيضاً مقارنتها بعملية غزة، أو بتلك التي كان يُعد لها مع حزب الله في جنوب لبنان. ويعلل ذلك بالوجود الكثيف للعسكريين الإسرائيليين في الضفة قبل بدء العملية، وما يجري الآن، هو تعزيز هذا الوجود الذي لا يهدف إلى السيطرة والمراقبة فحسب. ويرى أن العملية الراهنة تهدف إلى مجابهة المجموعات الإيرانية المختلفة التي بوسعها أن تنشط وتقيم لها مناطق نفوذ.
ويرى Krylov أن السنوية الأولى لحرب غزة تحل بعد حوالى الشهر. وتستعد إسرائيل مسبقاً لهذه المناسبة، وقررت خفض مخاطر الإنفجارات الإجتماعية السياسية والإرهابية على أراضيها. وسيتم التركيز على الحملة في الضفة الغربية، وقد يتمدد التطهير إلى قطاع غزة أيضاً.
وكالة نوفوستي نشرت في الأول من الشهر الجاري نصاً تحدثت فيه عن تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأسبابه ومآلاته المحتملة. واستضافت الوكالة عدداً من الخبراء والإختصاصيين الروس في شؤون الشرق الوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكما يبدو من النص، لم تطلب الوكالة من أي من الخبراء التحدث عن يوميات الحرب الإسرائيلية الحالية على الضفة الغربية، بل فضلت إعتماد النهج المعتاد في الإعلام الروسي الرسمي الذي يتحدث عن أي تطور جديد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ضمن الإطار التاريخي لهذا الصراع.
موقع الخدمة الروسية في BBC نشر في 29 من آب/أغسطس المنصرم، نصاً تساءل فيه عن سبب الغارات الإسرائيلية المتكررة على الضفة الغربية. وتحدث الموقع مطولاً عن تفاصيل اليوم الأول من الحرب الإسرائيلية الجديدة على الضفة الغربية. ثم نقل عن المراسل الدبلوماسي للشبكة البريطانية Paul Adams قوله بأن مخيمات الفلسطينيين، وخاصة مخيم جنين، أصبحت قواعد جديدة للعديد من مجموعات المقاتلين الفلسطينيين، والحملة الأخيرة هي محاولة إسرائيلية لقمع هذه القواعد. ويرى المراسل أن إسرائيل تعتبر أن إيران تساعد في تشكيل مجموعات مسلحة جديدة في الضفة الغربية، وتقدم لها التمويل والسلاح لإجبار إسرائيل على توزيع قواتها على جبهات متعددة.
*المصدر: المدن