يعتقد كثيرون انّ عملية «طوفان الأقصى» أدخلت اسرائيل في مأزق وجودي، فإن اجتاحت غزة للانتقام من حركة «حماس» واخواتها، لا تضمن نجاحها في ذلك، وإن وسّعت جبهة القتال الى الحدود اللبنانية والسورية قد تفتح عليها «أبواب حهنم» حسب تقديرات البعض، ولذلك تبدو المرحلة حسّاسة ومفتوحة على أحد الاحتمالين، او أن تتمكن واشنطن وحلفاؤها من إنزال بنيامين نتنياهو عن الشجرة التي صعد اليها، حيث «كبّر» الهدف إثر «الطوفان» ليجد نفسه الى الآن غير قادر على تحقيقه.
يفنّد ديبلوماسي مخضرم وخبير في السياسة الأميركية اسباب عدم توسع الحرب بالآتي:
اولاً: أن لا مصلحة للجميع في توسعها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الاميركية التي تنتهج سياسة «التسويات والسلام» منذ العام 1973، حيث بدأت باتفاق «كمب ديفيد» بين مصر واسرائيل ثم اتفاق «وادي عربة» بين الاردن واسرائيل وصولاً الى «اتفاقات ابراهيم» وما انتجته من تطبيع بين بعض الدول العربية واسرائيل، توقفت عند حدود المملكة العربية السعودية التي، في رأي هذا الديبلوماسي، لن تُقدم على هذا التطبيع خصوصاً بعد عملية «طوفان الأقصى» وما فرضته وستفرضه من تداعيات في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى مستوى المنطقة. ولذلك لا مصلحة للأميركيين بتوسّع حرب غزة، وهم يتعاملون معها مضمرين العودة الى السياسة التي كانوا يتبعونها قبل «الطوفان».
ثانياً- انّ اسرائيل على رغم النكسة الكبرى التي أُصيبت بها وأسقطت هيبتها وقوة الردع التي كانت تتمتع بها، تحاول بالقصف التدميري تعويض شيء من الهيبة، ولكنها تتورط اكثر فأكثر في اتجاه يزيد من الخطر الوجودي الذي يتهدّدها، ولذلك هي ضمناً لا ترى مصلحة لها بتوسّع رقعة الحرب الى خارج غزة، وهي تتخوف بقوة من توسيعها الى لبنان وسوريا، ولذلك هي تواظب على قصف مطاري دمشق وحلب من دون التعرّض لمطار اللاذقية الواقع تحت الحماية الروسية، وذلك لخوفها من تدفق مزيد من السلاح والذخائر والمتطوعين عبرهما للقتال على الجبهتين اللبنانية والسورية.
ـ ثالثاً: لا ترى ايران مصلحة لها وللمحور الذي تنتمي اليه في توسع رقعة الحرب، على رغم الدعم الكبير الذي تقدّمه لحركات المقاومة الفلسطينية الاسلامية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وتؤيّدها في حربها لتحرير ارضها من المحتل، وكذلك لا ترى طهران مصلحة في تعرّض لبنان للتدمير، ولذلك هي تتحرّك ضمن أطر وحدود مع تأييدها ودعمها لما حققته وتحققه المقاومة الفلسطينية، وخصوصاً حركتا «حماس» و«الجهاد الاسلامي» اللتان تتلقيان دعماً كبيراً منها.
ويرى هذا الديبلوماسي، انّ الاميركيين يستبعدون الحرب المفتوحة بين اسرائيل ومحور المقاومة، لأنّهم يخشون من انفلات الامور من ايديهم الى ما يهدّد مصالحهم في المنطقة، ولذلك بدأوا وحلفاؤهم منذ ايام العمل للتهدئة، ويعكس ذلك تبدّل لهجاتهم وخطابهم السياسي وكلامهم عن «هدنة إنسانية» في غزة، ذلك بما يعاكس ما قالوه للاسرائيليين في تل ابيب التي تعاقبوا على زيارتها غداة «طوفان الأقصى» والذي شجعوا فيه بنيامين نتنياهو على خوض معركة في غزة لـ»سحق» حركة «حماس»، وقد عُدّ هذا الكلام بمثابة «فشة خلق» للإسرائيليين الهائجين تحت وطأة عملية 7 تشرين الاول التي هزّت أركان الكيان الاسرائيلي.
ولذلك، يلاحظ الديبلوماسي انّ هناك اندفاعاً دولياً بدأ يتبلور في اتجاه البحث في حل للقضية الفلسطينية على اساس «حل الدولتين»، على رغم انّ هذا «الحل» لا ترضى به اسرائيل منذ ان أُقرّ قبل نحو 30 عاماً في اتفاقات اوسلو وغيرها. ولذا سيتمّ التوجّه بعد وقف الحرب الى البدء بمفاوضات على اساس «الدولتين».
ويذكر الديبلوماسي المخضرم نفسه، انّ واشنطن التي بدأت عام 1973 باتفاق «كمب ديفيد» بموجب عملية تفاوض وصلت الى اعلى المستويات، ستسير بعد «طوفان الأقصى» وحرب غزة في المسار نفسه، لأنّ القضية الفلسطينية عادت الى قلب الحدث الاقليمي والعالمي، لإيجاد حل لها، بعدما كانت الأحاديث حولها تدور تحت عنوان تحسين الاوضاع المعيشية للفلسطينيين وفق اتفاقات من هنا او هناك لا تعالج أساس القضية.
ويرى الديبلوماسي انّ الاتجاه الى «السلام» لا يزال نفسه، ولكن السؤال المطروح بعد «طوفان الأقصى» هو هل انّ الحل الفلسطيني سيكون وفق «اتفاقيات ابراهيم» ام على أساس «حل الدولتين»؟. ويضيف انّ ما حصل ويحصل في غزة «قد لا يؤثر على التطبيع الذي حصل بين اسرائيل وبعض الدول العربية، ولكن المملكة العربية السعودية بعد كل ما حصل لن تُقدم على اي تطبيع، لأنّها لن تقبل ان تكون «الجائزة الكبرى» لأحد فيه مثلما كانت مصر «الجائزة الكبرى» في اتفاق «كمب ديفيد» بعد حرب 1973».
ولتأكيد صحة توقعاته بعدم اتساع دائرة الحرب، يلفت الديبلوماسي المخضرم الى تلاقي الرئيسين الاميركي جو بايدن والفرنسي ايمانويل ماكرون حالياً على تأييد «حل الدولتين» على رغم إدراكهما انّ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي قدّما له الدعم، يعارضه بشدة وينادي بقيام الدولة اليهودية الخالصة، وإن بقي عرب فيها انما يكونون هامشيين لا حول لهم فيها ولا طول».
فالأميركيون، في رأيه، ومعهم كل حلفائهم الغربيين وحتى حلفائهم في المنطقة وكذلك بقية الدول، يدركون أن لا مصلحة بحرب كبرى تتضرّر فيها مصالح الجميع. ويشير الديبلوماسي هنا الى انّ الاميركي يعرف ان الاسرائيلي انكسرت هيبته وفقد قوة الردع وتحطمت لديه اسطورة الجيش الذي لا يُقهر منذ حرب تموز 2006 الى «طوفان الاقصى» الآن، ولذلك سارع لنجدته وتمكينه من استعادة شيء من الهيبة وماء الوجه امام المجتمع الدولي، وذلك عبر استقدام الأساطيل الى البحر المتوسط تحت عنوان تقديم الدعم له والدفاع عنه، وأعطوه الضوء الاخضر لـ«سحق» حركة «حماس» إن استطاع. فكل هذا الحشد الغربي هو لإشعاره «انّه ليس متروكاً وليس مسموحاً سحقه، وانّ هناك 50 الف جندي اميركي في المنطقة حاضرون لإسناده في المعركة.
على انّ الديبلوماسي نفسه، يرى انّ نجاح «حل الدولتين» المحكي عنه ليكون المخرج لحرب غزة، يتوقف على ما ستكون عليه حدود هاتين الدولتين، أتكون حدود 1948؟ أم حدود 1967؟ ويقول انّ الفلسطينيين يقبلون جميعاً بحدود 1948، ولكنهم ينقسمون حول حدود 1967 بين مؤيّد، هو السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس ومعارضها هم بقية الفصائل وتحديداً الفصائل الإسلامية وتلك المعارضة للسلطة. في حين انّ الجانب الاسرائيلي لا يقبل بالصيغتين، وهو دأب على محاربة هذا الحل ومنع تنفيذه منذ اتفاقات اوسلو قبل 30 عاماً الى اليوم، واكبر دليل على ذلك المستوطنات الكثيرة التي اقامها ولا يزال في الضفة الغربية وأسكن فيها الى الآن نحو 800 ألف يهودي.
ليست لدى الاميركي، يقول الديبلوماسي، أوهام إزاء سقوط هيبة اسرائيل، ولكن واشنطن تقوم بوساطات في كل الاتجاهات لتمكين تل ابيب من استعادة بعضاً مما خسرته من هيبة وماء وجه، على يد مجموعة قليلة من المقاومين، في الوقت الذي تتناغم غالبية دول المنطقة والدول الاوروبية مع الادارة الاميركية لجهة وجوب استيعاب الانفعال الاسرائيلي والحؤول دون توسع رقعة الحرب الى جبهات عدة، لأنّ في ذلك ما يهدّد اسرائيل نفسها ومصالحهم جميعاً.
*الجمهورية