من يحسم السباق بين «طوفان الأقصى» و«السيوف الحديدية»؟

لا يمكن لأي من الديبلوماسيين ان يتجاهل حجم العقبات التي تحول دون أولى خطوات الحل السياسي لما يجري في غزة وغلافها، امتداداً الى كل الجبهات التي فُتحت او تلك المرشحة للاشتعال في اي لحظة. فالسقوف العالية التي رفعتها إسرائيل لعمليتها "السلاسل الحديدية" جعلتها في مواجهة مفتوحة قد لا تنتهي قريباً مع عملية "طوفان الأقصى". وعليه، مَن في قدرته حسم هذا السباق؟ وهل من قوة دولية مؤهّلة لدور الوسيط النزيه؟


في ألف باء العلوم السياسية والديبلوماسية، أن تسعى المنظمات الأممية والإقليمية إلى تقديم الحلول السياسية للنزاعات التي يمكن ان تقع في أي منطقة من العالم، ولجم القادة العسكريين اياً كانت الاسباب التي ادّت الى أي نزاع من اي نوع محدود او متوسط الحجم. فأي منهما قد يكون في أي لحظة سبباً ليشكّل خطراً جدّياً على ما سُمّي «الأمن الاقليمي»، وقد يؤدي الى ما يهدّد «الأمن الدولي». فالفصل بين الأمنين لم يعد موجوداً إن لم يكن مستحيلاً في ظل التشابك الحاصل بين مواقع القوى المشاركة في النزاع، مهما كانت قوتها متواضعة والقوى الإقليمية والدولية التي وفّرت لها مقدّرات عسكرية تؤهّلها لأي مبارزة.
وإن أُسقطت هذه النظرية العامة على ما يجري في غزة وغلافها منذ السابع من تشرين الاول الجاري، فلن يكون صعباً على اي من المراقبين ان يكتشف حجم القوى الكبرى المتورطة في ما جرى. وإن احتسبت عملية «طوفان الأقصى» الشرارة الأولى لموجة التصعيد الاخيرة التي شهدتها اسرائيل، عليهم العودة الى من خطّط واستعد لها ووفّر مقوماتها ورسم مراحلها التنفيذية الصاعقة، بدءاً من ساعة الصفر لانطلاقها، بمعزل عن كل ما رافقها وصولًا الى ما يمكن ان تأتي به ردّات الفعل. وهنا بدا واضحاً انّ الامور لم تقف عند ردّ فعل القيادة الاسرائيلية التي أُصيبت بنكسة كبيرة لم تعرفها من قبل. بدليل انّها لم تر نفسها وحيدة في المواجهة، بعدما عبّرت قوى دولية عظمى عن اصطفافها إلى جانبها، ووضعت إمكاناتها الهائلة في تصرّفها وأعطتها الإذن المسبق للقيام بما قامت به من عمليات التدمير غير المسبوقة والمجازر التي ارتُكبت في قطاع غزة ومناطق فلسطينية مختلفة من الضفة الغربية.
وقياساً على حجم الاصطفاف الدولي، فُرزت المواقف بين المحورين في مواجهة لا يُعرف مداها من اليوم، وما يمكن ان تقود اليه. فالدعم العسكري والديبلوماسي والمادي لإسرائيل الذي تجاوز ما يمكن تصوره، لم يقابله المحور الآخر الداعم للجانب الفلسطيني بما يمكن ان يحافظ على الحدّ الأدنى من موازين القوى في المواجهة الدائرة في غزة وغلافها والضفة الغربية، امتداداً الى المناطق الحدودية مع الدول المجاورة لإسرائيل، باستثناء تلك التي تحكم اتفاقيات السلام كل أشكال العلاقة في ما بينها.
على هذه الخلفيات، تستبعد المراجع الديبلوماسية إمكان التوصل الى اي خطوة ديبلوماسية تضع حداً للآلة العسكرية لألف سبب وسبب. فأي حل لمثل النزاع الناشئ منذ ثلاثة أسابيع لا يمكن ان يبدأ سوى بوقف لإطلاق النار بمعزل عن مسلسل الشروط المتلازمة له، وهو أمر مستحيل بعد سقوط سلسلة المبادرات التي اتُخذت على اكثر من مستوى. وان طُلب إحصاؤها فهي يمكن ان تبدأ بمبادرة النقاط العشر التي بقيت طي الكتمان بعد إلغاء الزيارة التي كانت مقرّرة للرئيس الاميركي إلى الاردن للمشاركة في قمّة رباعية كانت ستجمعه مع العاهل الأردني والرئيس المصري والفلسطيني، وصولاً الى «قمّة القاهرة للسلام» التي جمعت ممثلين عن 31 دولة عربية وغربية وإفريقية، والتي سعى الداعي اليها الى ترتيب وقف للنار يمهّد للبحث في عدد من الأفكار المتداولة، والتي أسقطتها عبارات معدودة للرئيس الاميركي جو بايدن ترجمها بقوله: «انّ أي وقف للنار يخدم «حماس» في هذه المرحلة».
وإلى هذه المؤشرات السلبية لا يمكن تجاهل مصير سلسلة المشاريع التي طُرحت على مجلس الامن الدولي منذ أكثر من 10 أيام، بدءاً بالمبادرتين الفرنسية والبرازيلية، قبل ان تصل الامور الى «الفيتو» المتبادل الذي اطاح مشروعي قرارين أميركي وروسي. وهما مشروعان قدّما صورة واضحة تختصر شكل المواجهة القائمة ومضمونها، على خلفية السعي إلى اي اتفاق لوقف النار وفق معادلة سلبية بسيطة وهي تقول بوجهين لا ثالث لهما. فـ«الفيتو» الروسي ـ الصيني أسقط مشروع القرار الأميركي على الرغم من تصويت 10 دول مع مشروع القرار، فيما عارضت ثلاث دول هي روسيا والصين والإمارات، وامتنعت دولتان عن التصويت. وكذلك أسقط «الفيتو» الأميركي مشروع القرار الروسي الذي صوّتت الى جانبه 4 دول، فيما عارضته دولتان هما الولايات المتحدة وبريطانيا، وامتنعت 9 دول عن التصويت.
وإلى هذه المعادلة التي حكمت مشروعي القرار يبدو واضحاً انّ الدول التسع التي امتنعت عن التصويت على المشروع الأميركي، كانت وافقت على الاقتراح الروسي، ولكن مصير القرارين كان السقوط. والسبب يعود الى إصرار الجانبين الروسي والصيني على ضرورة الإتفاق على وقف للنار، وهو ما تجاهله المشروع الاميركي، لا بل فقد ذهب بعيداً في إدانة الجانب الفلسطيني. وعليه، بقيت المفارقة مبنية على مجموعة من الشعارات المتناقضة. فالمندوبة الأميركية وصفت مشروعها على طريقتها، وقالت إنّه كان «قوياً ومتوازناً ونتاج مشاورات مع أعضاء المجلس، ومن أجل التعاون معهم لبناء مستقبل آمن لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين على حدّ سواء». فيما أصرّ مندوب الصين على نزع الصفات الاميركية عن المشروع واعطاء صورة مناقضة عندما «تجاهل بكل بساطة الحقائق والقانون والضمير والعدل»، وهو امر يقود الى الاعتقاد أنّ أي حل سياسي وسلمي وديبلوماسي ما زال حلماً بعيد المنال.

 

وإن فسّرت المراجع الديبلوماسية الخطوة الاميركية ومعها الحلف الدولي المؤيّد لاسرائيل بأنّها لإعطاء اسرائيل فرصة إضافية لتحقيق أي خطوة تستعيد شيئاً من هيبتها وعنجهيتها بالتفوق الدائم على الفلسطينيين، التي فُقدت في 7 تشرين الاول الجاري في ساعات قليلة، فإنّها مهمّة صعبة، لكنها تعطي إذناً مسبقاً لتمادي اسرائيل بسلوك المسار العسكري الى ما لا نهاية، ومعه مسار الدم الجاري في القطاع.
ولا بدّ من الإشارة الى أنّ مجريات المعركة توحي - بما لا يرقى اليه شك - الى فقدان الوسيط الدولي الذي يمكنه ان يقود طرفي النزاع بوجهيه المحدود في غزة بين اسرائيل و«حماس»، والدولي الأوسع بين المحورين الدوليين، الى محطة تقع في منتصف الطريق توصلاً الى وقف للنار تمهيداً للبحث في ما تليه من خطوات. وما يزيد في الطين بلّة أن ليس لدى طرفي النزاع أي مشروع قابل للتحقيق. فما وضعته اسرائيل من أهداف لعملية «السلاسل الحديدية» لجهة تدمير «حماس» دونه عقبات، فيما يبدو انّ الهدف من «طوفان الأقصى» صعباً جداً بالنظر إلى سوريالته في الوقت الراهن، لمجرد الدعوة إلى «إقامة الدولة الفلسطينية» وعاصمتها «القدس» وتصفير السجون الاسرائيلية من المعتقلين. ولذلك فإنّ السباق ما زال قائماً بين المشروعين بلا أفق والى أجل غير محدّد، ما لم تطرأ مفاجآت تبدو مستبعدة إن لم تكن مستحيلة في المدى المنظور.
 

*الجمهورية