أثبتت الحرب الدائرة بين «حماس» واسرائيل بأنّ القضية الفلسطينية، تبقى القضية الاساسية والمركزية لمنطقة الشرق الأوسط، وعلّة النظام الدولي المُنادي باحترام حقوق الانسانية، ولكنه، الفاشِل بايجاد حلّ مقبول لمشكلة متفجّرة لشعبٍ مُعذّب، لما يُناهز المئة سنة، بالرغم من الاهتمام والتواجد الدائم لجميع القوى النافذة عالمياً في منطقة الشرق الاوسط، الحيوية استراتيجياً، وتعاملها مع أنظمة المنطقة، ودعمها لبعضها، كما مُحاربتها للبعض الآخر، ومساهمتها بإسقاط البعض، وبدعم البعض الآخر، وإسناده.
شهدت منطقة الشرق الاوسط معارك وحروباً سياسية وعسكرية واقتصادية متفرّقة ومتعدّدة، ولكن الأكثرها تعقيداً كانت قضية الشعب الفلسطيني المُعذّب، وقد انعكست تردّداتها وتأثيراتها على كافة مجتمعات دول الشرق الاوسط، ونال المجتمع اللبناني النصيب الأكبر من هذه التردّدات، فقدّم الكثير من امكانياته لأجل القضية المركزية العربية، وأدّت عواملها وتجاذباتها إلى تفجير الوضع الداخلي اللبناني المتفاعل أصلاً مع الصراعات الشرق اوسطية.
وبالرغم من وقوف لبنان الشعبي والرسمي داعماً وحاضناً للفلسطينيين، لم تتوان المنظمات الفلسطينية، المدعومة من أنظمة اقليمية ذات مشاريع توسّعية عن التعدّي على سيادته وتوازناته. ومع سقوط لبنان في آتون هذه الصراعات، فقدت القضية الفلسطينية الداعم الحقيقي والاقوى والأوفى لها. ولكن، مهما حصل وحُكي وسُرِد من قصصٍ حول النزاع اللبناني - الفلسطيني، تبقى الحقيقة الواضحة، بأنّ لبنان المتعافي والمستقّر والحرّ، شكّل العامل الأهمّ لخدمة القضية الفلسطينية، ولم تستطع أية قوة عربية أو نظام عربي، أو غير عربي، التمثّل بلبنان.
وتبقى الحقيقة أيضاً، بأن خراب لبنان أفقد الفلسطينيين صوتاً مسموعاً في الأندية العالمية وفي قاعات المحافل الدولية والاممية. فاستخدام لبنان كمنصّة عسكرية وأمنية أوصله إلى الحضيض وأفقد القضية الفلسطينية أصدق دعم لها، ولبنان الرسمي والشعبي، لم يسعَ يوماً للإستفادة من القضية الفلسطينية، ولم يمتطِها لأجل دورٍ توسعيٍ له، أو لتطبيعٍ يسعى له، أو لصفقاتٍ على حساب الشعب الفلسطيني. وما نفع القضيّة إن هُدِّمَ لبنان على رأس شعبه ورأس الشعوب النازحة إليه، وما الفائدة من لبنان المُتفجّر؟
فقيمة لبنان، لنفسه وللعرب وللقضية، تكمن باستقراره وبإنجازات شعبه، وقوّته تتمثّل بقيم الإنسان الحرّ فيه، التي تُساوي قدرات كافة المُنظمات المُسلّحة، التي عبثت بأوضاعه وأمنه، بحجّة النضال ضدّ العدو، ولكنّها خدَمت العدو بأعمالها الهوجاء وإرهابها، المُجيّر لأنظمة المشاريع الإيديولوجية التوسّعية في المنطقة. وإذا كانت قيمة الانسان تُقاس بما يُحدثه من تغيير في مجرى التاريخ، فقيمة المسؤولين والأحزاب تُساوي ما يُحدثونه من استقرار وتقدّم ورفاه لمجتمعاتهم، وليست قيمتهم بما يُسبّبونه من دمار لأوطانهم.
خسِرَ لبنان نفسه لحظة هبوطه من الحالة الاستقلالية إلى الحالة التبعية، ولحظة فقدانه الحيادية، وانتقاله إلى الانحيازية، وخسِرَ لبنان نفسه، عندما انتقل من صف الدول الداعمة للقضايا المُحقّة العربية، إلى جبهة المناداة بالحقوق، والمُتاجرة بها في سوق المفاوضات الاقليمية. وخسِرَ لبنان دوره لحظة إلحاقه بمحور المُمانعة المُتخلّف، فأضحت معاهداته، تنازلاً واستسلاماً أمام أذرع ومنظمات قوى المحور، فتخلّى عن معاهداته واتفاقاته وعلاقاته مع دول العالم المُنتج والاستثماري.
إنّ الفكر الايديولوجي المتحجّر والمنبعث من طهران الثورية الاسلامية، تسلّل بأبشع أنواعه إلى اربع دول عربية، فأدّى بها إلى التدمير والشرذمة، ووحّد الخراب بينها جميعاً، وأثبت بأنه نظام انتفاعي وانتهازي إلى اقصى الحدود، ففعّل منظماته الأمنية والعسكرية لخدمة مصالحه على حساب مصالح الشعوب، فلم تكن الحقيقة يوماً هدفه ولا حقوق الشعوب العربية، أيضاً، بل جلّ ما كان يأخذه بالاعتبار، مكانته الاقليمية.
آمن الإمام مهدي شمس الدين بالخصوصية اللبنانية التي ذكرها في كتاباته ومقالاته، معتبراً أنّها العامل الأكثر فائدةً للعرب والمسلمين، وأنّها افضل لهم من تبعية لبنان لأي من أنظمتهم. وردّد في مطالعاته بأنّ أكبر مصائب العرب، السعي إلى «الوحدة» وفضّل عليها التعاون والاحترام المتبادل بين الشعوب والأنظمة والدول والسيادات، والتي تؤدي حتماً إلى الوحدة السليمة في الاقتصاد والامن المشترك والمفاهيم الانسانية، وصرّح في احدى خطاباته قائلاً إنّه حتى لو توحّدت كل الدول العربية من طنجة إلى عدن وأصبحت دولة عربية واحدة، فسيكون لبنان الدولة العربية، الثانية.
لم يأخذ محور المُمانعة بهذه النصائح، فأدخل لبنان فى الخراب، وعاونه على ذلك بعض الأطراف اللبنانية اللامبالية والقصيرة النظر، والمناصرة للمشاريع التدميرية، مقابل حماياتٍ لفسادها السياسي والمالي والسلطوي. يقول ألبرت انشتاين: «العالم هو مكان خطر، ليس بسبب الشرّيرين فقط، بل بسبب هؤلاء الذين يرون الشرّ ولا يفعلون شيئاً».
نعم، لبنان يمرّ بمرحلة خطرة جداً، ولكن وصوله إلى هذا الوضع لم يكن مفاجئاً وغير متوقّع، فقد تم تحضير ذلك من خلال الصفقات السلطوية والمفاهيم التحاصصية التي تعامل بها محور المُمانعة مع الاطراف المتعاونة معه، فأضحوا متخاذلين ومتعاونين «بين الحق والباطل» حيث لا مكان للوسط.
تستمرّ المسرحية الخطرة التي يتعرّض لها لبنان، فكل من لا يرفع صوته بوجه خطط «حزب الله» لابقاء لبنان رهن الحسابات الايرانية، وقواعد الاشتباك بينها وبين اسرائيل، ورهن مخطط توحيد الساحات، يُساهم إلى حدٍّ كبير بايصاله إلى الحروب المتتالية، وإلى الدمار المستمرّ. قواعد الاشتباك حرب، وبقاء المنظمات المُسلّحة على الأراضي اللبنانية حرب، وبقاء الدويلة حرب. وهنا هي معركتنا، قبل أن تندلع الحرب بكل أشكالها.
المصدر: نداء الوطن