في حمأة التحليلات التي تحدثت عن الاسباب التي أدّت الى «طوفان الاقصى» والرد الاسرائيلي بـ»الأسوار الحديدة»، تَجنّب كُثر حتى اليوم الإضاءة على الجانب الديني الذي يعدّ من أبرز وجوه الحرب ان لم يُقل انه الأخطر. فالبعد الديني له دوره بالنسبة الى ما يجري، والامثلة لا تحصى ولا تعد. وان ساد هذا المنطق وحجبت الاسباب الاخرى للحرب يعني انها ستكون حرب «داحس والغبراء» ولن تكون نهايتها قريبة؟
لم تقتصر القراءات التي أجريت حتى اليوم لمختلف الوجوه المتعددة التي أحيتها عملية «طوفان الأقصى» على خلفياتها السياسية، الإجتماعية، الانسانية والعسكرية والتي تشكل مرآة للعوامل الداخلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والاقليمية والدولية بل تعَدّتها الى الأبعاد الدينية التي تتحكم بكثير من الآليات العملية والاستراتيجية، التي ترجمها الطرفان بطريقة واضحة وصريحة لم تكن خافية على احد بالنظر الى حجم الامثلة والشواهد التي لا تحصى ولا تعد. وقد عبّرت عنها مواقف وإجراءات عملية لا تمت بأيّ صلة الى مفهوم المنطقين العسكري والسياسي بعدما تحوّلا آلية لتطبيق مفهومها الديني والعقائدي.
وان تناول كل من يُقارب هذا الوجه من وجوه الحرب في غزة لن يكون أمر التثبت منه صعبا عليهم، ويمكن الإشارة إليه من ابواب عدة، انطلاقا من الخلفيات العقائدية التي تذكّي العداء بينهما، فهما عبّرا عنها من خلال الأسماء التي تطلق على العمليات العسكرية منذ اللحظة الأولى لاندلاعها لتعبّر عن سمو أهدافها وعناوينها الاستراتيجية الكبرى بالمفهوم الديني. وفي العودة إلى الأسماء السابقة التي اختيرت كعناوين الانتفاضات الفلسطينية تكتسح العبارات القرآنية كل أشكال المواجهات الكبرى بين اسرائيل وحركة «حماس» كما نظيراتها من المنظمات أينما وقعت بينهما في غزة والقدس والضفة الغربية. وغالباً ما ارتبطت هذه العناوين بـ»المسجد الاقصى» و»القدس» بأوصاف دقيقة استنسخَت من آيات بيّنات، بمعزل عمّا اذا كانت قد انتهت الى ما هدفت اليه ام العكس.
وقياسا على هذه الملاحظات الدقيقة، جاءت الجولة الاخيرة من المواجهات التي رافقت عملية «طوفان الاقصى» وتلتها منذ انطلاقها صباح السبت في 7 تشرين الأول الماضي وحتى اليوم لتحسم الجدل حول الأبعاد الدينية والعقائدية التي يستثمرها الطرفان فيها بمعزل عما يمكن ان تنتهي اليه من ابعاد اقليمية ودولية محتملة، ان قرر الداعمون للطرفين توسيع نطاقها من غلاف غزة الى الغلاف الاسرائيلي الأوسع الممتد على مساحة دول شرق المتوسط حتى العمق العراقي - الايراني وفي الخليج العربي ما بين مضيقي باب المندب وهرمز.
ثمة من المراقبين من يعتقد ان الأبعاد الدينية للمواجهة بين اسرائيل وفلسطينيي الداخل ومناطق السلطة كرّسها اعلان «يهودية الدولة» بطريقة اقفلت فيها الابواب الى اي نظرية تعطي الأبعاد السياسية والتاريخية الأخرى للمواجهة، بعدما تجاوز ما يجري كل اشكال المواجهات المعروفة بنماذجها الدولية المختلفة التي اكتسبت شكل وصفة النزاع بين مغتصب ومحتل، فكيف إن وقعت في منطقة تعيش مثيلاتها منذ اكثر من 76 عاما تؤرّخ من قيام دولة اسرائيل عام 1947 على الأراضي الفلسطينية.
وإن تَعمّق المراقبون في قراءة هذه الأبعاد الدينية والعقائدية للحرب وجب العودة الى سنوات خلت تعددت فيها الروايات «التلمودية» التي يتحدث عنها المسؤولون الاسرائيليون عما يسمّى بـ»عقدة العقد الثامن للدولة اليهودية»، وهو ما اشار اليه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في دراسة نشرها في 7 أيار 2022 عبّر فيها عن «مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ 80 لتأسيس الدولة اليهودية على «ارض الميعاد»، مستشهداً في ذلك بـ»التاريخ اليهودي الذي يفيد أنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين. هما «فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم. وإنّ كلتي الفترتين كانتا بداية تفككها في العقد الثامن». وانتهى الى القول ان «تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي التجربة الثالثة التي تعبر عقدها الثامن، وإنه يخشى أن تنزل بها «لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقاتها».
وإن حاول باراك ان يستنسخ هذه التجربة على مساحة العالم وفي دول أخرى فقد ربط بين هذه التجربة ـ اللعنة ونشوب الحرب الأهلية الاميركية في العقد الثامن من عمرها، وتَحوّل إيطاليا دولة فاشية وألمانيا دولة نازية في عقدها الثامن وكانت سببا في هزيمتها وتقسيمها، من دون ان ينسى التذكير بلعنة العقد الثامن «من عمر الثورة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهياره وانفراط عقده». وان تناسى انّ التجربة الإسرائيلية مختلفة عن هذه التجارب فقد ذَكّره بها الفلسطينيون.
ويضيف المراقبون ان على من يريد فهم هذه النظرية وعمقها ان يعود الى مواقف الناطق الرسمي باسم كتائب القسام «أبو عبيدة» الذي أعلن قبل ايام «أن المقاومة الفلسطينية تنتظر العدو الاسرائيلي في معركته البرية التي يهدد بها، لنعلّمه معنى القوة والفداء وسنذيقه الهزيمة». مستطرداً بالإشارة إلى «أصناف جديدة للموت سيتذوقونها»، مؤكداً «أن زمن بيع الوهم للعالم حول أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، والميركافا الخارقة، انتهى، بعد أن حطّمناه في غلاف غزة»، منتهياً إلى التأكيد أن كل هذه النتائج ستنتهي إلى ان يعيش اليهود «لعنة العقد الثامن التي ستحل عليهم».
والى هذه الخلفيات الدينية والعقائدية التي عبّرت عنها بعض المواقف والعبارات القرآنية والتلمودية يبقى من المهم القول ان النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني محكوم منذ نشأته بين منطقين: الاول تعبّر عنه «الدولة اليهودية» التي لا تعترف بوجود شعب فلسطيني على «أرض الميعاد». والثاني يعبّر عنه العقل الفلسطيني الذي لم ولن يعترف بـ»كيان غاصب» وقوة محتلة ولا بد من إزالته يوماً ما. وقد زاد من حدة الاشتباك على هاتين الخلفيتين العقائدية والدينية، ما أشعَرَ الفلسطينيون بأنهم باتوا وحيدين في هذه المواجهة إثر قيام مشاريع اتفاقات السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية التي أفقدتهم سنداً قوياً، من دولة جارة قوية كمصر ومملكة أخرى كان لها حق الرعاية على مقدساتهم هي الاردن. وقد جرى ذلك قبل ان تعقد «الإتفاقات الإبراهيمية» الاخيرة التي أحيَت بهذا العنوان - على خلفيته الدينية - زمن «اولاد ابراهيم» الذين يحكمون دول اطرافها الى ان بلغت مسيرة التطبيع ما اعتبر «المراحل النهائية» بين المملكة العربية السعودية واسرائيل.
وفي ختام هذه القراءة التي تحتمل كثيرا مما لا يتسع له المقال، فقد جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتتسبب بهزّات كبرى أصابت هذه التفاهمات واعاقت تقدمها في الخطوة الأخيرة بين الرياض وتل أبيب. فهل يمكن ان تعيد النظر بما سبقها من خطوات تسبّبت بمزيد من العناد والإجرام الإسرائيلي الذي يسعى للتفرّد بمصير ابناء قطاع غزة وجَعلهم عرضة لعملية «ترانسفير» تُخرجهم من ارضهم. وعليه، يُطرح السؤال: هل يمكن للقمة العربية الاستثنائية التي تستضيفها الرياض الشهر المقبل ان توفّر جواباً عن اي من هذه الاسئلة، ام ان هذه المهلة الفاصلة عن القمة كافية لتغيير الوضع في غزة؟
*المصدر: الجمهورية