العالم كما تعكسه مرآة غزة

البشر، الحركات السياسية، الدول، الأجسام الاجتماعية، كلّها تبدو اليوم في مرآة غزة تمامًا كما هي في الواقع، لا أقرب ولا أبعد، لا أصغر ولا أكبر، تمامًا كما هي. لأنها على الرغم من تعقيدات التاريخ والعلاقات الدولية تُظهر بوضوح طبيعة النزوع الأخلاقي للأفراد والشعوب والأحزاب والأنظمة السياسية، فتبدو حقيقيةً من دون أقنعة ومواربات وضحكات صفراء وتطلّعات مستقبليّة مستوردة، ونزعات دخيلة ورغبات جامحة في تقليد بناة العصر الناجحين، خصوصًا إذا وقف أمامها الذين انتابهم شعور داهم بالتطبيع مع إسرائيل وضرورة الاستيقاظ من منام قضية كبرى وُلدت عام 1948.

على مستويات قد تكون متوارية، تتحدّد درجة قبول الظلم بمدى قبول الواقع والاستسلام له، وترتبط بافتراض وجود طبيعة أصلية في البشر وروحًا شريرة للتاريخ، تؤدي إلى ترسيخ قدريّة من نوع ما في الوعي تُفضي به إلى إدمان الاستدلالات الفاسدة، وعلى رأسها إيمانٌ بأنّ ما كان في الماضي سيكون حتمًا في المستقبل، فلطالما حكم الصراع العلاقات بين الجماعات والبلدان، ومن الطبيعي استمرار الحال نفسه بما أنّه كان كذلك طيلة تاريخنا. وعليه ما يمكننا فعله مُقتصرٌ على تبني منظومات قانونية وأمنية تضبط تلك العلاقات ولا تصل بها إلى مستوى الاقتتال، لتفرض صيغًا متنوعة للتعايش وتحقيق المصالح، وفرض توازنات في القوى لخلق نظام ردع وحماية متبادل، مثلما كان الحال أيام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، فضلًا عن البحث الدؤوب عن أساليب خلّاقة للضبط الاجتماعي والسياسي والعسكري وتصنيع موانع الانفجار وتوزيعها، مع قابلية إزالتها في حال تطلب الأمن القومي أو الاقتصادي للنخب المسيطرة ذلك.

وذلك يعني أنّ بلوغ إسرائيل الخامسة والسبعين من عمرها، يجعلها ماضيًا مستمرًا في التدفق نحو المستقبل، فموازين القوى لا تمنحنا القدرة على تغيير مسار التاريخ واستعادة حق الفلسطينيين في أرضهم، لذا فلنطبّع معها حتى لو أنها تعيش ذروة نشاطها الاستعماري والعنصري، فكرمى لعين "المستقبل الموعود" لا بأس من التضحية بفلسطين وأهلها، الذين لا تُفسَّر حملة التقريع التي تعرّضوا لها من قبل مناصري التطبيع، سوى بإحساس أولئك بالضعف والعار، فهاجموا الضحية كأسلوب موصوف للتخلص من الشعور بالذنب تجاهها.

ولأنّ المستقبل لن يكون في أحسن أحواله أكثر من ماضٍ مُحسّنٍ ومُعدّل، وإن بدرجة كبيرة لكنها لا تصل به إلى نقطة يمكن معها تسميته بمستقبل مغاير، فإن من يسعى إليه ليس سوى ساذجٍ وحالمٍ. يدعي ذلك التصور أنّه تأسس على واقعية وقدرة على مواجهة معطيات الواقع مهما كانت قاسية، لذا لا تؤاخذهم على خياراتهم المؤلمة التي أجبروا أنفسهم على اتخاذها بعدما واجهوا الواقع بشجاعة، فنظروا أمامهم ورؤوا الزمن نهرًا واحدًا فإما أن نشمّر عن سيقاننا وننزل فيه، أو نظلّ معزولين ضعفاء نقضم أظافرنا على الضفة خائفين من الفُرس وغيرهم، لذا باختصار اسمحوا لنا "نريد أن نعيش"، هكذا صرخوا متذمّرين من القضية التي لم تجد لنفسها حلًّا.

التطبيع في بعض جوانبه، كان أحد مظاهر انحسار الأفكار على مستوى العالم وتراجع أهميتها، فلم تعد ثمة فكرة قادرة على دفع الناس للفعل ضد مصالحهم الآنية المؤقتة، وعلى حشدهم وراء قضايا ربما تبدو خاسرة في اللحظة الراهنة. هكذا استولت علينا روح التكتيك ووافقنا على أنّ الفشل هو قدر الكفاح الفلسطيني، ورأينا التاريخ مجرّد نصف قرن فَقِسنا عليه مستقبلًا من المفترض أن نراه مفتوحًا على احتمالات نعمل على تحقيق ما يناسبنا منها، لا بوصفه مسارًا حتميًا يتجه إلى مآل مكتوب يتوجّب الاستسلام له.

وليس من النافل القول ارتباطُ تراجع الأفكار والقضايا الكبرى باستشراء العلاقات السلعيّة في زمن النيوليبرالية، وتحويل المسألة الفلسطينية إلى مجرّد تجارة أرادوا إنهاءها بصفقة القرن، التي عُقدت بروحٍ تحتفي بالميكافيللية السياسية، وتُقابل بسطحيةٍ بين الأخلاق والمنفعة مفترضةً تناقضًا شاملًا بين الحيّزين، على اعتبار أنّ السلوك الأخلاقي يؤدي إلى الخسارة، فللأشياء منطقها الداخلي وللتاريخ دروسه فلننسجم مع سمة العصر، وسمة عصرنا "البيع". بذلك باتت فلسطين عائقًا لتحقيق أهداف وأحلام ذوي نفوذٍ أصابتهم حمّى الازدهار. والنتيجة للآن مجرّد عمرانٍ هجينٍ بين اليوتوبيا والديستوبيا، سلوكٌ من التنعّمِ على شفير الأبوكاليبس، ومن البذخ المجاور للمذبحة، ومن الرّتع في اقتصاد مزدهر إلا أنه هشّ، فخيمٌ لكنه غير متين.

كل هذا يؤججه تراجع الديمقراطية في بيوتاتها التقليدية واستمرار إصابتها لدينا بفشل النمو، وفي النهاية لم يعد هنالك من معنىً لشيء سوى للمال، فلا ضرورة للعدالة ولا حاجة لنا إلى الحرية، إلا إذا كانت فرديةً للغاية، فنحن نقدس الحرية الفردية إذا ساهمت في ترسيخ الاستعباد الجماعي فحسب، ليظل الأفراد شبعانين وأحراراً وغير قادرين على فعلٍ جماعي أساسه الوعي السياسي بفكرة الظلم وأساليب الاستغلال. وفق ذلك المنظور، نفهم نظرية المطبّعين، في أنّ القضية الفلسطينية ليست مهمة، ما يعنينا هم الفلسطينيون أنفسهم، أن نُحسّن عيشهم ونزيد دخلهم، فلا مصير عادلًا لكم كجماعة إنما نجاةٌ كأفراد.

فلسطين اليوم هي الاختبار الأخلاقي الأول في العالم، وهي أكثر نقطة يتكثّف فيها سؤال المستقبل الإنساني، والذي سيحدّد إن كنا نسير باتجاه المزيد من المذابح والحروب أم باتجاه واقع مختلف. ومع الإبادة الجارية في غزة، شعرنا أكثر كم هم موجودون أولئك الذين ارتكبوا الهولوكوست وقبلوا بضرب القنابل النووية وبتجارة الرقيق وبالتمييز العنصري والجندري وباستغلال الطبقات العاملة، وكم ما زالوا يحتكرون السلطة والثروة والإعلام. هؤلاء يريدون أن يبقى الكوكب مقسومًا إلى مركز وأطراف، وشرق وغرب، وشمال وجنوب، وبيض وملونين. 

في المقابل فإنّ الأحياء الذين نزلوا إلى الشوارع لدعم فلسطين، هم حالمون ينشدون حياةً لا يحتفي أحد فيها بالمجازر على الأقل، وليسوا سذّجًا وحمقى ومثيرين للشفقة كما ينظر إليهم "دهاة" السياسة والاقتصاد من وراء ستارات نوافذ الطوابق العالية، إنما بشرٌ متطلّعون وحالمون وواقعيّون في آن، يسيرون ويهتفون "الحرية لفلسطين"، مدركين أنّ العالم لا يبدو في مرآتها كما هو في الواقع فحسب، بل كما سيكون في المستقبل أيضًا.

المصدر: المدن