معضلة أخلاقية

في قديم الزمان، وعندما كان هناك شعاعٌ من أمل، وسرابٌ من حسن الظن، اجتمعنا مؤلفة قلوبنا فتيات وفتية في ضواحي عاصمة القانون الدولي الإنساني جنيف، وفي إطار مثالي من الخضرة والماء والوجه البسّام، لنؤسس شبكة دولية من المدربين على القانون الدولي الإنساني وصنع السلام. وقد اتينا من قارات عدة جامعنا هو محبة السلام وحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني الذي يُطبّق عل الجميع. وكان منّا العرب والعجم، الكرد والأمازيغ، المسلمين والمسيحيين واليهود والبوذيين واللا دينيين وإلى آخره. رابطنا المشترك هو احترام كونية حقوق الانسان وضرورة إحلال السلام لكي تنعم الشعوب بثرواتها بعيدًا عن الحروب الأهلية والاستعمارية والطائفية والاثنية. لم نكن مجموعة من السذّج كما يمكن للمرء أن يتخيّل من خلال ما تقدّم. فقد كنا عارفين بشبه استحالة مهمتنا، وفي الآن ذاته، كنا مصرّين على الخوض فيها حاملين تصورًا مثاليًا لما يجب أن تكون عليه المجتمعات في القرن الحادي والعشرين.

واختار المنظمون للقاء عنوانًا يدفع على الحماس والالتزام بمسار التدريب لامتلاك ادواته الكاملة والمساهمة في نقل زبدة نتاجه إلى أجيالٍ من قادة الغد. وكان هذا الشعار يقول Never again: هذا لن يحدث مطلقًا مرة أخرى. ما المقصود بما يجب العمل على منعه تكراره وتجنّب "الثقافة" والممارسات المؤدية له؟ إنها مجازر الإبادة الجماعية كما التي حصلت في القرن العشرين كالتي وقع ضحاياها على سبيل المثال لا الحصر، الأرمن واليهود والغجر والفلسطينيين والبوسنيين والتوتسي. وبالتالي سيكون في صلب مهمتنا ثقيلة الحمل، القيام بتوعية المتدربين من مختلف الفئات والطبقات والدول، على نشر ثقافة السلام وصنع السلام والحفاظ عليه، في ظل احترام القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الانسان.

وفي حمأة الحماس والانخراط في العمل، خطر لي أن أطرح سؤالاً بسيطًا على المشرفين، ولم أتردد، لأنني أؤمن بأنه لا يوجد أسئلة غبية بل هناك أجوبة غبية عمومًا. وكان سؤالي هو التالي: كيف لي مثلاً أن أتوجه الى متدربين فلسطينيين في مخيمات النزوح لأحثّهم على بناء السلام والاعتراف بمآسي الآخرين من البشر، وهذا عمل محمود في المطلق، في حين لا يمكنني أن أجيبهم عن موعد عودتهم الى أراضيهم المسلوبة وكيفية معاقبة من احتلها ونفّذ ببعض من أهاليهم المذابح. كيف لي أن أحثّهم على تبني كونية حقوق الانسان في حين تغتصب حقوقهم ولا يلقى ذلك صدىً في دول العالم "الحرّ" و"الديمقراطي"؟ كيف والحال كما هي يمكنني أن أستعرض معهم الإنجازات الأممية التي هدفت إلى منع تكرار ما حصل في الماضي، وهم يعيشون تشردًا وتمييزًا وقهرًا في الماضي وفي الحاضر وربما في المستقبل لا يكاد يؤرق جفون من صاغ هذه الإنجازات وصوّت على إقرارها وإدخالها حيّز التنفيذ؟

مضت سنين طويلة على هذا، حملت خلالها، وطوال أكثر من خمسة عشر عامًا، الرسالة النظرية المستخلصة من التدريب لأجوب بها دولاً عرفت تغييرًا إيجابيًا نسبيًا بالتخلص من طغاة أو محتلين. وبالتالي، فإنه كان من الممكن، ومن المجدي أيضًا، التوجه إلى أبنائها وبناتها بهذه الرسالة "المثالية" وتشجيعهم على ألا يتكرر ما حصل معهم او لهم من فظائع مرة أخرى.

اليوم، أستعيد هذه الذكريات وأنا أحاول أن أصيغ برنامجًا تعليميًا للناشئة حول حقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني، فأجد نفسي عاجزًا عن مثل هذه المهمة، ليس من الناحية العلمية والعملية، ولكن من الناحية الأخلاقية. ففي صياغتي المرجوة هذه، سترد كثير من النصوص التي لم تجد لها يومًا تطبيقًا فعليًا من قبل مجموعة مستثناة من الدول. كما أن ما حصل وما يحصل في السنوات الأخيرة، لا يدل البتة على كونية بعض المعايير والتي استثنيت منها دولٌ، إما لسيطرتها العسكرية والمالية كأميركا مثلاً، أو لأسباب استعمارية معقّدة تدخل في صلب تشكيل منطقة الشرق الأوسط، كإسرائيل.

وعند الخوض في النصوص، هناك معضلة أخرى تتمثّل في ضرورة التأكيد على كونية الشرعة الدولية لحقوق الانسان، والابتعاد عن الاستثناءات الثقافية التي تُربط ببلداننا، من جهة، مقابل المواجهة الصريحة مع نصٍ كوني، كإعلان حقوق الانسان الذي استثنيت منه حقوق الشعوب لأن من صاغه كان ما زال يستعمر كثيرا من الدول، كما أنه كان ينظر بعين التسامح والمناصرة لإنشاء دولة إسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.

ما يحصل من تدمير منهجي وإبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، يُفاقم من المعضلة الأخلاقية لدى من آمن يومًا بكونية حقوق الانسان وضرورة احترام القانون الدولي الإنساني، حيث أن أغلب المؤيدين للعمل العسكري القائم هم أعضاء نادي "العالم الحر" الذي استقينا من كتبه أهم مصادرنا الحقوقية، والذي موّلت مؤسساته أهم البرامج التوعوية في عديد من دول العالم الآخر الذي يسعى أفراده للحرية ولكن أيضًا، تسعى بعض شعوبه للتحرر من نير الاستعمار الاستيطاني المستدام.

طغاة العالم هم الأكثر استمتاعًا بما يحدث، لأنهم واعون بأنه صارت لديهم الحجة المقنعة لمواجهة احتجاجات شعوبهم المطالبة بالحرية مستندين في ذلك إلى الحدود المتفجّرة التي وضعها "العالم الحر" أمام انتقاد دولة إسرائيل من جهة، وفقدان ثقة الشعوب بقيم ومبادئ هذا "العالم الحر". يا لها من معضلة أخلاقية مرعبة.  

المصدر: المدن