منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب في غزة، والجميع يغرقون في حساباتهم: أيّ مفاعيل سياسية ستكون لهذه الحرب؟ أيّ قوة لـ»حماس» بعدها؟ وتالياً، كيف ستكون علاقة الحركة بـ»فتح» وبالأنظمة في العالم العربي والمنطقة؟ والأهم: ما انعكاسات الحرب على الأوضاع الداخلية في الكيانات العربية؟
في حرب إسرائيل على غزة، بديهي أن يكون العرب جميعاً ضد إسرائيل. لكن مواقف غالبية الأنظمة العربية تتسِم بجانب من الغموض أو التحفظ، لضرورات سياسية. وحتى السلطة الفلسطينية تلتزم موقفاً دقيقاً جداً، لا يخلو من الإحراج، بين الشراكة المؤكدة في مواجهة إسرائيل وطموحاتها الاستيطانية والتوسعية، والتمايز المؤكد في القراءة السياسية.
بل إن السلطة الفلسطينية تجري حساباتها لما بعد انتهاء الحرب في غزة وزوال غبار المعارك والدمار وشلال الدماء. حينئذ، ستنقشع الصورة السياسية، سواء بالنسبة الى ما يتعلق بموقع «حماس» على طاولة المفاوضات المنتظرة، أو بموقعها في سلَّم الزعامة على الشعب الفلسطيني، حيث المنافسة شديدة مع «فتح» في داخل الأراضي الفلسطينية والشتات. وحرب عين الحلوة الأخيرة كانت أحد تجلياتها.
عندما ترفع «حماس» راية النصر في غزة، ولو كانت شبه مدمرة ومهجرة، بديهي أن تعلن مشروعية قيادتها للفلسطينيين أو على الأقل حقها في أن تكون لها الكلمة الأولى في أي قرار. وفي العادة، مَن يدفع الدم هو مَن يفاوض.
سترفض السلطة الفلسطينية ذلك، أولاً لأنها حتى اليوم هي الممثل الشرعي، بتغطية شاملة عربية ودولية، وثانياً لأنها ستحمّل «حماس» مسؤولية عن اتخاذ قرار الحرب من دون التفاهم معها، ما أدى إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعوقين من أهل غزة، وعن تدمير جزء واسع من القطاع وإفراغه من دون وجود خطة لإعماره، ما سيتسبّب بتهجير طويل الأمد لقسم كبير من السكان.
ومن الطبيعي أن يحظى موقف السلطة بدعم غالبية الأنظمة العربية لسبب أساسي وهو أنها تخشى تجيير الزعامة الفلسطينية إلى «حماس» أي إلى حركة «الأخوان المسلمين». ولذلك، إنّ الداعمَين الأشد حماسة لـ»حماس» هما قطر وتركيا، أما العرب الآخرون فهم مع الفلسطينيين بلا تحفظ ومع «حماس» بتحفظ، لأنهم يخافون من اليوم التالي بعد إعلانها انتصارها على إسرائيل، سواء كانوا مقتنعين بأن ذلك هو انتصار فعلاً أو لا.
وفي جردة لمقاربات الأنظمة العربية المعنية، تبدو الصورة واضحة:
مصر قلقة من «انفلاش» غزة لتقضم قطعة من أرضها، أو إجبار مصر، تحت الضغوط المختلفة، على إدارة غزة، بواقعها الغالب الداعم لـ»حماس». فصحيح أن الموقف المصري الرافض لتهجير الغزيين إلى سيناء ينطلق من موقف مبدئي حريص على منع تصفية القضية الفلسطينية، لكنه أيضاً ينطوي على قلق سياسي من التداعيات السياسية على الداخل المصري الحساس، قبل حقبة الرئيس السابق أحمد مرسي وخلالها وبعدها.
الأردن لا يقل قلقاً عن مصر. فخطة «الترانسفير» من الضفة الغربية للنهر إلى الضفة الشرقية ستهدد المملكة، خصوصاً إذا نشأت حال من انعدام الاستقرار السياسي بين الفلسطينيين أنفسهم وبينهم وبين العرش.
سوريا تلتزم الصمت تماماً إزاء ما يجري في غزة، والجولان ليس جبهة دعم لـ»حماس» كجنوب لبنان، وإن كان التحالف مع إيران قاسم مشترك. وطبعاً، للرئيس بشار الأسد تحفظاته بالنسبة الى ما يتعلق بنمو «الإخوان المسلمين» في المنطقة وقطيعة دمشق المستمرة مع قطر، على رغم انفتاحها على سائر الخليجيين.
السعودية وحليفاتها الخليجيات تتمسك بمنطق واضح: رفض عدوان إسرائيل على غزة، واعتبار الحل الوحيد المقبول هو التزام إسرائيل مبادرة بيروت العربية للعام 2002. لكن أي إشارة إلى «حماس» تحديداً لم تظهر في أدبيات موقف المجموعة الخليجية، باستثناء قطر.
هذا يعني أن الجميع يدرس حساباته بدقة، وأن أحداً ليس مستعداً للانزلاق في مواقف يندم عليها أو لا يعود قادراً على الخروج منها. وبالتأكيد، في العالم العربي حذر شديد من «فوران» موجة «حماس» و»الإخوان المسلمين» في الرأي العام العربي والإسلامي، بعد انتهاء الحرب في غزة، على أساس أنها تمثّل المقاومة الفاعلة في وجه إسرائيل. ومن البديهي أن يتعاطف الرأي العام العربي والإسلامي مع «حماس» لأنها دغدغت أحلام الجماهير كحركة مقاومة لإسرائيل.
ومن السهل أن يتعاطف الرأي العام العربي والإسلامي مع «حماس»، وهي فصيل سنّي، بعدما تعاطف في الفترة السابقة للحرب في سوريا مع فصيل شيعي هو «حزب الله». بل إن «الحزب»، وفق بعض المطلعين، ارتفعت أسهمه في الوسطين العربي والإسلامي (السنّي) خلال حرب غزة لمجرد أنه حليف لـ»حماس» ويقوم بمشاغلة إسرائيل على حدودها الشمالية.
إذاً، بعد حرب غزة، هناك مناخ سياسي جديد، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، والكل يستعد لمواجهته ويدرس خياراته بدقة.
*المصدر: الجمهورية