أكثر ما ظهر في الحرب على غزة، كثرة كلام الآخرين وقلة أفعالهم. يتساوى في ذلك، أدعياء (المقاومة) والمتبرعون بالمساعدات الإنسانية، فكلاهما يقوم بما يوازي إسقاط الفرض، وعلى الأغلب لا إيمانا ولا احتسابا، وأغلب الظن أن غالبية الفريقين، إن لم يكن الجميع، قد استكان للأمر الواقع، وبدأ التحسب لمرحلة ما بعد الحرب، فخفت حدة زعيق الكلمات والوعود والتهديدات، وتوقف التلويح بالخطوط الحمر، وتحولت قصة غزة ومأساتها إلى مجرد قضية غوث وزيادة في عدد شاحنات المساعدات التي تدخل من معبر رفح.
لكن وسط هذا السياق الصعب والمؤسف، ظهرت مع ذلك، معالم جديدة، ومهمة، في منطقتنا والعالم، تبشر بواقع مختلف، في التعامل مع القضية الفلسطينية، أكثر تفهما، ووعيا، كما ظهرت أيضا مبادرات تلمست من بينها، ما هو مشرق ونقي، بطلته سيدة مرموقة، لكنها متواضعة، وإنسانة قبل أن تكون وزيرة في بلادها، قامت بما عجز عنها رجال كثر، ودخلت منطقة حرب مضطربة، لتشرف بنفسها على توزيع مساعدات بلادها، وتتعرف مباشرة على حاجات الناس المنكوبين في القطاع.
لولوة الخاطر وزيرة الدولة للتعاون الدولي في الخارجية القطرية، عززت عندي قناعة قديمة بأن للنساء في منطقتنا أدوار تفوق كثيرا ما حصلن عليه، أو كلفن به. هذه السيدة، ذهبت بعباءتها الخليجية التقليدية البسيطة، وكانت أول مسؤول أجنبي من غير المعنيين بالاغاثة الإنسانية يدخل غزة منذ بدء الحرب، والتقت هناك خلال فترة الهدنة البسيطة بالناس العاديين، وزارتهم في بيوتهم، وجلست معهم على الأرض، ورأت بشكل مباشر، ما لم يره أحد آخر من السياسيين عبر العالم.
هذه السيدة القطرية، جسدت قدرة اختراق المرأة للثوابت النمطية، ليس فقط في مفهوم القدرة الجسدية للمرأة، فذلك يسير، مع أدوار النساء في غزة وسواها من دول الحروب والأزمات، لكنه يتعلق بالصورة التقليدية للسياسي الذي عادة ما يزور مثل هذه المناطق مصحوبا بجيش من الحراس، متمنطقا بالدروع الواقية من الرصاص، وغالبا ليحقق غرضا سياسيا خاصا به أو ببلاده.
قد يكون لزيارة الخاطر إلى غزة علاقة بدور قطر المحوري في تثبيت هدنة الأيام السبعة، وتبادل المحتجزين بالأسرى، أو في الجهد المثابر للوصول إلى وقف لإطلاق النار، فذلك في النهاية أمر متوقع في ضوء الموقع السياسي المهمم للخاطر، لكن من المؤكد ان لا أحد أرغمها على أن تكون هي من يقوم بأي دور يتوجب الوجود الميداني في داخل غزة، فذلك كان ممكنا مع عدد كبير من السياسيين القطريين الشباب الأقل رتبة، لكني واثقة أنها هي من سعى للتطوع لهذه المهمة، وأنها على عادتها في القضايا الإنسانية كما تابعتها من قبل في مواقف كثيرة، كانت تريد بالفعل ان تؤدي دورا شخصيا في مد يد العون ولو بكلمة تقدير لصبر الناس، أو بالتربيت على رأس طفل فقد أسرته، أو فلسطيني فقد أطرافه، أو طبيب ما زال منذ أسابيع ليداوي الجرحى تحت القصف.
في صيف عام 2021، اختارت قطر لولوة الخاطر وكانت في حينها مساعدة وزير الخارجية والمتحدث الرسمي للوزارة، لتشرف على إيواء عشرات الآلاف من اللاجئين الأفغان الذين غادروا بلادهم بشكل فوضوي بعد الانسحاب الامريكي وسيطرة حركة طالبان على كابل، وفي حينه انتبه العالم إلى هذه السيدة التي كانت تهتم بكل تفاصيل حياة اللاجئين ولا سيما الأطفال منهم، وتتعامل بحرفية الناشطة الإنسانية لا الوصف السياسي الذي تحمله، وبرغم صعوبة المهمة في حينه، إلا أن وسائل الإعلام الغربية التي رصدت كل شئ، أفاضت بالحديث عن التنظيم الذي جعل مهمة إيواء كل هذه الأعداد الكبيرة أمرا ممكنا وسلسا، بل ومميزا، وبالطبع فقد كان للخاطر دور محوري في كل ذلك.
هذا النمط من مزج السياسي بالإنساني، لن تجده دائما، حتى في الدول الديمقراطية، وبالمقارنة مع (السيدات الأول) في دول عديدة، فكثير منهن يقمن بأعمال خيرية بغض النظر عن الدوافع، لكنهن لسن بسياسيات، ولا يحظين بدور حكومي محدد، وبالتأكيد لن تجد بينهن من تزور منطقة حرب مفعمة بالتوتر والخطر والصور القاسية والمواقف غير المحسوبة، حتى لو في أيام هدنة.
كعربية وكأمراة، اشعر بالفخر لوجود سياسية بمستوى لولوة الخاطر، ترتدي لباسنا، وتتحدث بلغتنا، وتحمل في قلبها كل هذا الحب والشعور بالمسؤولية، والقدرة على أن تكون إنسانة قبل أن تكون موظفة حكومية مرموقة.
*المصدر: المدن