الحرب على لبنان كما لو أنها حدثت

الحرب الإسرائيلية على لبنان غير مستبعدة، رغم وجود نسبة ساحقة من الذين لا يتمنونها، وفي مقدمهم الحزب الذي يريد الحفاظ على حدّ مضبوط من التصعيد. إسرائيل تريد استثمار صدمة هجوم حماس، على الأقل بإزاحة مقاتلي الحزب إلى شمال الليطاني بحيث لا يكونون قادرين على شن هجوم مفاجئ شبيه بما فعلته حماس. على هذه الخلفية يُفهم إعلان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عن توجهه إلى إسرائيل والبحرين وقطر، وتأكيده على "التزامات الولايات المتحدة بتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين". 

زيارة أوستن هي الثانية له منذ السابع من أكتوبر، وقد سبقه بزيارة إسرائيل مؤخراً مستشار الأمن القومي جيك سوليفان الذي "حسب ما رشح من أخبار" لم يحقق هدفَي زيارته، فلم يحصل عل موافقة الحكومة الإسرائيلية على إيقاف حملتها العسكرية الكبرى على غزة، والانتقال إلى ضربات موضعية محسوبة بدءاً من الشهر المقبل. كذلك لم يحصل سوليفان على تعهد إسرائيلي بضبط قواعد الاشتباك مع حزب الله، بل توعّدت التصريحات الإسرائيلية مؤخراً بالرد على عمليات الحزب بخمسة أضعافها، وصولاً إلى التقارير عن وضع الجيش سيناريوهات الحرب البرية على لبنان. 

بين زيارتَي المسؤولَيْن الأمريكيين، ذهبت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا للقاء المسؤولين الإسرائيليين، قبل لقاء المسؤولين اللبنانيين، وطالبت كولونا من تل أبيب بهدنة فورية في غزة وبخفض التصعيد على الحدود اللبنانية. قد يبدو المطلبان للوهلة الأولى متلازمين، والفكرة الشائعة هي أن وقف الحرب على غزة سيؤدي تلقائياً إلى وقف الهجمات المتبادلة بين مقاتلي حزب الله وإسرائيل، ووقف هجمات الميليشيات الإيرانية الأخرى على قواعد أمريكية في سوريا والعراق أو على سفن في البحر الأحمر. إلا أن وجهة النظر الإسرائيلية مختلفة تماماً في النقاش حول ما بات يُعرف بـ"اليوم التالي على الحرب"، وواحد من الفوارق التي يعلنها الإسرائيليون أنهم لن يتراجعوا عن حربهم في غزة حتى تحقيق الأهداف المعلنة، بينما يفضّلون تحقيق مطلبهم في لبنان سلماً مع الاحتفاظ بالخيار العسكري إذا تعذّر السلمي، من دون ربط الأخير بإنهاء الحرب على غزة، بل إن فرص الحرب على لبنان في "اليوم التالي" أكبر مما هي عليه حالياً.

الحرب التي يهدد بها الإسرائيليون اللبنانيين شبيهة بالحرب الحالية على غزة؛ لقد عبّروا عن ذلك صراحة، وبما يتضمن اعترافاً بأنهم في غزة يرتكبون الفظائع ضد البشر والحجر. ولئن كانت الحرب على غزة وقعت تحت تأثير صدمة هجوم حماس المفاجئ للجميع، فالحرب على لبنان "إن وقعت" ستكون خالية من عنصر المفاجأة، ويمكن التفكير فيها كما لو أنها حدثت، مع التأكيد على أن المعنيين بتبعاتها على لبنان لا يشتهون وقوعها.

ثمة فكرة شائعة عن أن القوى الدولية المؤثرة ستمنع إسرائيل من شن حرب على لبنان، وأن الأخير يحظى برعاية لا يلقاها الشعب الفلسطيني المستباح. أنصار هذه الفكرة لا يلحظون الاتفاق الداخلي الإسرائيلي الحالي على عدم العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، وإذا كان رفع شعار اجتثاث حماس له بُعد معنوي بعد عملية طوفان الأقصى فإن خطر حزب الله يُنظر إليه كتهديد أكبر لا يُعرف متى يحين استخدامه، ويُخشى من ترك المبادرة له. 

الذرائع متوفرة جداً لإشعال الحرب في الظروف الراهنة، وإدارة بايدن تدخل سنة انتخابات الرئاسة وهي أضعف من اتخاذ مواقف غير معهودة أمريكياً إزاء إسرائيل. وبخلاف الفكرة الشائعة عن الدم الفلسطيني المستباح، يمكن القول بوجود تضامن واسع مع الفلسطينيين لدى العديد من الأوساط التي لن تتحرك للتضامن مع اللبنانيين، ومن ضمنها اليهود الذين رفضوا العدوان على غزة، و الذين دفعت مظاهراتهم في الولايات المتحدة إدارة بايدن لقليل من التراجع عن موقفها الداعم بالمطلق للعدوان.

صحيح أن القانون لا يتحكم بالسياسات الدولية، لكن لا يغيب عن العالم أن غزة تحت الاحتلال، ما يرتّب على إسرائيل مسؤوليات بموجب القانون الدولي. في حين تستند إسرائيل في الجبهة اللبنانية إلى قرارات مجلس الأمن وإلى استعدادها المعلن منذ سنوات طويلة للانسحاب إلى الحدود الدولية مقابل تسلم الجيش اللبناني مهمة ضبط المناطق الحدودية. المطلب الأخير لطالما رفعه لبنانيون يرفضون "اختطاف" الحزب قرارَ الحرب والسلم، لكن اعتراضاتهم قد لا تنفع مع مشاركتهم الحزب في البرلمان وفي الحكومة، وهي الذريعة التي ستستخدمها إسرائيل لتبرير سياسة العقاب الجماعي الوحشي، بعدما استخدمت المنطق ذاته لتسويغ الحرب على فلسطينيي غزة. 

الأمر بالنسبة لإسرائيل أبعد من تلبية مخاوف ما يزيد عن ثمانين ألف إسرائيلي غادروا مساكنهم القريبة من الحدود مع لبنان، وهم يخشون من العودة مع بقاء قوات الحزب على بعد كيلومترات قليلة منهم. الأمر يتعلق أيضاً بألا يكون للحزب قرار الحرب بمستوى التصعيد الذي يناسبه، ومن ثم قرار السلم على التوقيت الذي يخرج فيه كأنه انتصر.  

بخلاف الأهداف المعلنة لحربها على غزة، تضع إسرائيل في الجبهة اللبنانية هدفاً يستند إلى قرار مجلس الأمن 1701، وتحقيقه سلماً ممكن إذا وافق الحزب الذي يستطيع تغطية تراجعه بالقول أنه يفعل ذلك لحماية لبنان من مصير غزة، وهذا ما سيرحّب به خصومه اللبنانيون قبل غيرهم. إلا أن موافقة الحزب على هذا المبدأ تعني حرفياً أن ترسانته ومقاتليه غير قادرين على حماية لبنان من مصير غزة، وسيبدأ تالياً السؤال المشروع عن جدواهما وعن الخطابات التي كانت تتوعد إسرائيل بالدمار خلال وقت قصير أو خلال دقائق، وقد يتساءل جزء من جمهور الحزب نفسه عن جدوى ومبررات تضحيات مقاتليه الذي قيل أنهم قُتلوا على طريق القدس.

يجوز القول أن تنفيذ قرار مجلس الأمن المذكور، وتجريد حزب الله من قرار الحرب والسلم، يعني تجريده من أهم أسلحته التي ترهب خصومه في الداخل. يفهم الحزب ذلك جيداً، حتى إذا بدا احتفاظه بأسلحته شمال الليطاني بمثابة استقواء إضافي على الداخل. لذا لن يكون من التشاؤم النظر إلى احتمال نشوب الحرب كاحتمال قائم بقوة، كاحتمال مكروه لدى الجميع باستثناء أولئك الذين يستطيعون منع نشوبها.

*المصدر: المدن