من أجل الضاحية الجنوبية

يوجز تاريخ الضاحية الجنوبية لبيروت، سيرة المآسي التي طبعت لبنان على امتداد خمسة عقود، بما فيها من اضطرابات عنيفة وموجات تهجير ونكبات اجتماعية وعمرانية.

انطلقت الحرب الأهلية منها، فكانت أرض النازحين والمهجرين، بقدر ما كانت ساحة تطهير طائفي ما زالت أفاعيله المؤذية حتى اليوم. ومن الخروج على الدولة إلى الفوضى السكانية والانفلات الميليشياوي، حتى أتى الاجتياح الإسرائيلي الذي توّج عدوانيته في الضاحية بمجزرة صبرا وشاتيلا. ثم نُكبت بالتدمير المدفعي عامي 1983-1984، وبعده جاءت حرب المخيمات، إلى أن انفجرت "حرب الأخوة".

الضاحية هذه، التي أرادوا لها أن تبقى بعيدة عن مشروع إعادة الإعمار وخطط دمجها بالعاصمة (مشروع أليسار)، كي تبقى "خزاناً بشرياً" للقتال، وعصبية مستنفرة، لم تحرم تماماً من ثمرات سنوات السلم، عمراناً واقتصاداً. لكنها بقيت هكذا محكومة بعقلية الحصن الأهلي المتوجس من جواره ومن الدخلاء.

تبدو الضاحية الجنوبية وكأنها تعيش باستمرار في "تروما" الحرب عليها، خصوصاً وأن الجماعات اللبنانية لم تخفِ يوماً عداءها للضاحية وما تمثله. الطابع القاسي لهذه المنطقة الشهيرة في كل العالم أن لا طمأنينة فيها. إنها دوماً تحت دائرة الخطر.

كانت حرب 2006 على الضاحية أشبه بزلزال كاسح. وخروجها من الأنقاض مرة أخرى، شكّل ترسيخاً لهويتها وعصبيتها. فإعادة إعمارها بدا تحدياً بوجه شطر من اللبنانيين الذين تمنوا نهاية "القلعة" أو إزالة هذا "الخزان" المقاتل والمسلح. الشعور الذي انتاب أهلها أنهم يتعرضون للموت وبيوتهم تدمر فيما أهل العاصمة يعيشون حياتهم الطبيعية وبقليل من الاكتراث، جعلهم أكثر بعداً عن لبنان والعاصمة.

على الدوام، تلطخت سمعة الضاحية، بوقائع وبافتراءات وبتضخيم ظواهر أو أحداث. وهذا ما كان يدفع بأهلها إلى المزيد من الخصومة والعداء.. والمزيد من الخوف من أولئك الآخرين الذين يعيشون خارجها، في تغذية ارتجاعية للنعرات الطائفية أو الضغائن السياسية.

سياسة "توزيع الحلوى" أو الشماتة المتبادلة حكمت علاقة الضاحية الجنوبية بمعظم لبنان، إلى حد أن استعصاء التضامن الوطني يبدأ على الأرجح من الضاحية وينتهي فيها.

نكبات الضاحية تجددت مع التفجيرات الإرهابية، بعدما ذهب حزب الله إلى القتال في سوريا. كان ذلك أيضاً مدعاة للارتكاس أكثر نحو عقلية القلعة والحرب الدائمة.

منذ ثلاثة أشهر، يعيش سكان الضاحية بهاجس سقوط سقوف منازلهم عليهم بلحظة بداية حرب مباغتة. أن تبدأ آلة القتل الإسرائيلية بتسوية بنايات الضاحية بالأرض. خوف عميق من هذا الاحتمال اليومي، الأشبه بكابوس.

وربما لهذا السبب، يبدو كل انتظار لخطاب حسن نصرالله، أشبه برجاء ديني أكثر مما هو "إرشاد سياسي".

اليوم، يبدو أن عملية اغتيال القيادي في حماس، صالح العاروري، تنذر بابتداء حقبة جديدة في الضاحية. حقبة أمنية خطيرة، تحولها إلى ساحة تفجيرات أو غارات. بل ساحة حرب استخبارات شرسة. سيكون غموضها ومفاجآتها وربما دمويتها مصدر تخريب حياة السكان لفترة طويلة. كأن الضاحية تعود بلبنان إلى زمن السبعينات والثمانينات بكل ما فيها من عبث وموت مجاني، حين كان المواطن يخاف من سيارة غريبة قد تكون معبأة بالمتفجرات، ويخاف من كل مسلح قد يفتح النار بلا سبب.

هذا بالضبط ما يجب أن ينتهي. الضاحية ولبنان يستحقان ما قاله نصرالله: "مراعاة المصالح الوطنية". هذه العبارة التي حين كان يقولها الآخرون –على امتداد عقود- يُتهمون بالتخاذل والخيانة والتآمر.

وأبعد من ذلك، ما عاد مقبولاً أن تظل الضاحية مرشحة دائمة لـ"أحداث الطيونة" كل مرة.. وعلى أمل أن تتوسع حدائقها لا مقابرها.

*المصدر: المدن