مجانين إسرائيل..عقلاؤها!

في السابع والعشرين من الشهر الماضي حُكِم على الشاب الإسرائيلي تال ميتنيك بالسجن بسبب رفضه الخدمة العسكرية، احتجاجاً منه على الحرب الإسرائيلية على غزة. وكان تال في اليوم السابق قد دخل معسكر التجنيد في تل هشومير، وأعلن رفضه الخدمة مصحوباً بنشطاء شباب من شبكة "ميسارفوت"، وهي منظمة تدعم المستنكفين عن الخدمة العسكرية ضميرياً. يُذكر أن الأيام الأخيرة من الشهر الفائت قد شهدت زيادة في التكهنات حول دخول الحرب على غزة مرحلة جديدة بضغط أمريكي، ثم بدا كأن تلك التكهنات صارت مؤكدة مع اغتيال القيادي في حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت. 

في اعتراضه على الخدمة العسكرية، وصف تال ميتنيك الحرب على غزة مستخدماً التعبير الدقيق الذي نفتقده في الإعلام عموماً، فقال أنها عملية انتقامية من الفلسطينيين، لا من حماس وحدها. ليست المسألة هنا شكلية إطلاقاً، وحتى الحديث عن ضغوط أمريكية على حكومة تل أبيب للانتقال إلى المرحلة التالية من "الحرب" ينطوي على المعنى ذاته، أي أن إدارة بايدن تقول: كفى انتقاماً.. وهيا إلى الحرب.

أبعد من الإدارة الأمريكية، هذا ينسحب على العديد من الحكومات التي قدّمت في البداية دعماً غير مشروط للانتقام الإسرائيلي، ثم راحت تسحب الدعم مع تقديرها الخاص أن ما ارتكبه الجيش الإسرائيلي من إبادة وتدمير كافيين. سيكون من الضروري توضيح هذا المعنى، بل التركيز عليه، من أجل محاكمة فكرية للخطابات السياسية التي واكبت الانتقام الذي سُمّي حرباً. فمصيبة الثأر الذي أُريدَ له أن يكون أعمى ليست في وحشيته فحسب، وإنما في التبرير له على نطاق واسع دولياً تحت مسمّى مخادع.

ومن المؤكد أن عملية الثأر كانت لها شعبية واسعة بين الإسرائيليين، رغم كل ما يُقال عن مآرب نتنياهو وصقور حكومته منها. وما حدث منذ شهر حتى الآن أن المزاج العام اكتفى من الانتقام، وشاعت أكثر من قبل الأسئلة عن الإخفاق الأمني في السابع من أكتوبر، وعن واقعية الهدف المتعلق باجتثاث حماس، وعن فائدته إذا تحقق وبرز تنظيم آخر أكثر راديكالية. أي أن الأيام الأخيرة من عملية الانتقام صارت فائضة حتى على المزاج العام الإسرائيلي؛ صارت بلا معنى بعدما انتهى التعطّش إلى الثأر.

سيكون مؤسفاً، من زاوية النظر هذه، تكرارُ القول أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها. الأقرب إلى الواقع أن إسرائيل حققت الهدف الأول، المتّفَق عليه داخلياً، وهو الثأر، وما ارتكبته في غزة من مجازر وتدمير يكفي ويزيد عن الاستهتار به كثمن أكبر من باهظ. تكرار القول ذاك دولياً لا يخلو من خبث، وإذا كان ظاهره ينص على استحالة تحقيق هدف اجتثاث حماس فإن باطنه يسمح لإسرائيل بمواصلة الحرب على نحو مختلف من أجل تحقيق نسبة كافية من الهدف، وهذا هو فحوى المطالبة الأمريكية بالانتقال إلى المرحلة التالية. أما تكرار الكلام ذاته من جهة الممانعة، خاصة بعد اغتيال العاروري، والقول أن الاغتيال أتى بسبب فشل إسرائيل في غزة فهو لا يخرج عن الشعارات المعهودة للممانعة في مواكبة استثمارها القضية الفلسطينية.

في الأيام المقبلة، قد تنفرط الحكومة الإسرائيلية التي أعيد تشكيلها على هذا النحو بعد السابع من أكتوبر، وقد تتشكل لجنة للتحقيق في فشل المستوى السياسي بعد تشكيل لجنة مماثلة لتقصي أوجه التقصير العسكري في تلافي عملية حماس. والمحزن أن ذلك سيُستثمر بخفة للحديث عن انتصار على إسرائيل، وكأنّ فشلها في استباق الضربة هو تلقائياً بمثابة انتصار. لقد صار ذلك كله مألوفاً جداً، ونستطيع توقّع خطابات النصر، مثلما نستطيع من جهة أخرى توقُّع المقارنة بين فضائل الديموقراطية الإسرائيلية التي تحاسب المقصّرين مقابل إعلان الانتصار فوق الدمار.

أهمية الشاب الإسرائيلي تال ميتنيك المنتظرة هي أن أمثاله يفتحون النقاش الإسرائيلي أعمق مما يظهر موضع اتفاق الأغلبية وأعمق من حسابات الأحزاب، فهم قد يدعون مثلاً إلى التحقيق في وحشية عملية الثأر الإسرائيلية، أقله على قدم المساواة مع التحقيقات الأخرى. تال هو واحد من مئتي شابة وشاب أعلنوا في آب الماضي عن نيتهم رفض الخدمة العسكرية الإلزامية، وهذا عدد ليس بالضخم لكنه صدى لهامش أوسع، فالشاب نفسه يؤكد على أن موقفه يحظى بتأييد محيطه الاجتماعي، ولا غرابة ضمن الاصطفافات المعروفة في أن تعليقات قراء جريدة هآرتس على خبر رفضه الخدمة أتت بمعظمها مؤيّدة له.

تنقل جيروزاليم بوست عن تال قوله: (بسبب الكذبة الإجرامية القائلة أنه "لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة"، قُتل حتى الرهائن الذين كانوا يلوّحون بعلم أبيض وهم يهتفون باللغة العبرية. لا أريد أن أتخيل عدد الحالات المماثلة التي لم يتم التحقيق فيها، لأن الضحايا ولدوا على الجانب الخطأ من السياج). وقوله يتماشى مع رؤية مجموعة المئتين التي أعلن أفرادها مسبقاً رفضهم الخدمة لرفضهم الاحتلال، وهؤلاء يذهبون بنقدهم مباشرة إلى مؤسسة الجيش الذي يعتبرونه أساس المشكلة، ويرفضون الالتفاف التقليدي حوله، ويسعون إلى فتح نقاش حول المؤسسة العسكرية بوصفها مؤسسة عنف واحتلال، وهي لكونها كذلك مؤسسة مولِّدة للعنف المقابل.

يقرّ تال بأنه مع أقرانه أقلية حتى الآن، وشكلياً يبدو رقم المئتين متراجعاً عن حوالى ثلاثة آلاف جندي احتياط قيل أنهم تظاهروا ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وسُجن منهم 160. لكن رفض الخدمة في حروب سابقة "على أهميته" كان يتوقف عند الحرب ذاتها، بينما يقدّم تال ورفاقه موقفاً أكثر جذرية تجاه المؤسسة العسكرية ورمزيتها، مع استبعادهم أن يكون العنف حلاً للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. العقوبات، بموجب القانون العسكري، لا تميّز بين هذين النوعين من الرفض، ويُعفى منها فقط رافضو الخدمة لأسباب "ضميرية".

يُذكر أن القانون لا يعفي رافضي الخدمة لأسباب سياسية، ما يحصر المستفيدين "ضميرياً" بفئة من المتدينين الذين لا يؤدّونها. والحكم بسجن الشاب تال قد تتبعه أحكام أخرى سبق لأمثاله التعرض لها، قبل أن يتم تسريحهم رسمياً بذريعة عدم أهليتهم العقلية للخدمة، وهي الذريعة التي يُسرَّح بموجبها أيضاً أولئك الذين يرفضون أوامر عسكرية من نوع قصف هدف يُعرف سلفاً أنه مدني. باستخدام المعيار نفسه، لقد كنا طوال الشهور الثلاثة الأخيرة إزاء الفظائع التي يرتكبها عقلاء إسرائيل، بينما تشتد الحاجة إلى مجانينها، وهذا ينطبق فقط على الاستثناء الإسرائيلي، فقط لا غير.

*المصدر: المدن