شكرًا جنوب إفريقيا، ولكن!

في ظل عجز عربي رسمي مفجع ولكنه غير مفاجئ، وعلى هامش احتجاجات شعبية عربية خجولة نسبيًا، تقدّمت حكومة جنوب إفريقيا بقضية ضد الحكومة الإسرائيلية أمام محكمة العدل الدولية سعيًا أولاً لوقف الحرب على غزة بشكل فوري، وفي مرحلة لاحقة، ستطول نسبيًا، لإدانة الإبادة الجماعية الجارية هناك من قبل الجيش الإسرائيلي مدعومًا بأسلحة وصمت العالم الحر ومن يدور في فلكه أو يركض لاهثًا في مؤخرته. ولقد انطلقت الجلسات يوم 11 كانون الثاني 2024 نتيجًة لهذا الموقف المتميّز والشجاع لوطن نلسون منديلا الذي حارب نظام الفصل العنصري سياسيًا وعسكريًا، وآمن كما حزبه، المؤتمر الوطني الإفريقي، بشرعية نشاطات وعمليات مختلف حركات التحرر الوطني في إفريقيا وسواها من دول العالم التي تتعرض للاحتلال أو للاستبداد، أو كليهما معًا.

 

إثر هذا الموقف المبدئي والأخلاقي الذي تبنته بريتوريا، انفجرت العواطف العربية فرحًا وتقديرًا لهذه المبادرة. وضجّت وسائل الاعلام التقليدية كما وسائل التواصل الاجتماعي بعبارات الشكر والعرفان لجنوب افريقيا. وكعادتنا في مثل هذه الأمور، فلقد طغت العواطف وهيمن جوع العرب لموقف أخلاقي عادل من قضاياهم. ومن شدة درجة الترحيب بهذا الموقف، صار من الطبيعي أن ترى علم جنوب افريقيا مرفوعًا على بيوت وعربات الكثيرين كما فعلوا في مواقع التواصل. وربما كانت فرصة نادرة للبعض في التعرّف على تاريخ هذه البلاد الذي كانوا يجهلونه تمامًا.

 

في الآن ذاته، صدرت بعض الأصوات التي نبّهت إلى عدم الذهاب بعيدًا في كيل المدائح لبريتوريا، مع الإشارة إلى أن لحكومتها مواقف عديدة ضد حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي. وقد ساقوا أمثلة توضيحية على ذلك، أهمها متعلق بالموقف من السودان الذي كان يقوده عمر البشير، وسوريا التي انطلقت فيها احتجاجات شعبية سنة 2011.

 

ففي شهر حزيران من سنة 2015، شارك المشير عمر البشير، رئيس السودان السابق، باجتماعات القمة الإفريقية التي عقدت في جنوب إفريقيا. وعلى الرغم من أنه مُدانٌ من قبل المحكمة الجنائية الدولية التي صادقت على قيامها بريتوريا، بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي في مقاطعة دارفور السودانية، إلا أن الحكومة المستضيفة، رفضت طلبًا رسميًا من المحكمة كما من عديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية، بإلقاء القبض عليه وتسليمه الى القضاء الدولي. وجاء رفض التسليم هذا بحجة الحصانة الرئاسية للبشير، ومسؤولية الدولة المستضيفة أمام منظمة الاتحاد الإفريقي. في المقابل، سارعت المحكمة العليا الجنوب إفريقية، وبطلب من المنظمات المدنية، للأمر بتنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن البشير كان قد غادر البلاد.

 

وبخصوص الأوضاع في سوريا، فإن شديد اللوم من قبل بعض السوريين يوجه إلى حكومة جنوب افريقيا نتيجة محافظتها على سفارتها مفتوحة في سوريا ورفضها تنفيذ العقوبات بحق النظام في دمشق وذلك على الرغم من ثبوت ارتكابه لمختلف أنواع المجازر والتعذيب والاعتقال التعسفي بحق الشعب السوري. وإن كان هذا اللوم مشروعًا، إلا أنه من الضروري البحث في أسباب الاستقالة الأخلاقية في منبر والتمسك الأخلاقي في منبر ثانٍ. فكيف لدولة أن تحمل تاريخيًا بيرق العدالة والحرية في ما يتعلق بالشعب الفلسطيني في حين أنها تغمض عيونها أمام المقتلة السورية؟

 

مجرد قراءة سريعة للملف الملفت بدقته وبتوثيقه والمقدم من جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، والاستماع إلى مداخلة ممثل هذه الدولة في الجلسة الأولى التي عقدت يوم 11 من الشهر الحالي، والتي تم تجاهلها من وسائل الاعلام الغربية، يبرز بوضوح بأن شعلة الحرية وشرعة حقوق الانسان قد هجرتا العقل الغربي ومؤسساته حتى على مستوى الادعاء. بالمقابل، تنطحت لإعلاء شأنهما دولة ذات رمزية تاريخية لا يستهان بها في مقارعة العنصرية والاستبداد.

 

لدى الأفارقة، شعوبًا وقادة، ترسّخ شعورٌ مشروع بالتمييز البنيوي الذي تتعامل من خلاله معهم دول الغرب، وخصوصًا منها تلك التي لديها تاريخٌ استعماريٌ حافلٌ في أراضيها. حتى أن الميثاق الأفريقي لحقوق الانسان والشعوب لعام 1981، أضاف في عنوانه وفي نصوصه ما تحاشى الإعلان العالمي لحقوق الانسان الموضوع غربًا سنة 1948 في ما يتعلق بحقوق الشعوب، حيث لم يكن استعمار الكثير من الدول من قبل أوروبا قد أفل.

 

إن رفض جنوب إفريقيا القاء القبض على عمر البشير كما اعتقادها الساذج بإمكانية قيام حل سلمي في سوريا بعيدًا عن العقوبات والمقاطعة، هما موقفان نابعان من فلسفة عالم ثالثية ترسّخت في العقلية السياسية لدى هذه الدولة، ولا يمكن اعتبارهما البتة إشارة إلى ازدواجية الخطاب واسنادهما إلى مؤامرة ما. وعليه، فيجب البناء فكريًا وإنسانيًا على ذلك بعيدًا عن الاستنتاجات المتسرعة.

 

"دعونا نترك هذه الأوروبا، هذه الأوروبا التي لا تتوقف عن الحديث عن الإنسان وفي الوقت نفسه تقتله في كل مكان تلتقي به، في كل زاوية من شوارعها، في كل زاوية من أنحاء العالم. أوروبا رفضت التواضع والاعتدال، وأيضًا التفهم والرقة. إنها كانت بخيلة فقط مع الإنسان، وجشعة وقاتلة مع الإنسان. إذاً، أيها الإخوة، كيف لا نفهم أن لدينا أمورًا أهم بكثير من متابعة هذه الأوروبا."

هكذا كتب فرانتز فانون سنة 1961.

*المصدر: المدن