الجوكر الإيراني في لعبة الشرق الأوسط

في إحتفالات إيران هذه السنة بالذكرى 45 لثورتها، لم يخطب رئيسها في أحد مساجد طهران، كما هي العادة، بل خطب في الحشود أمام النصب التذكاري في طهران الذي أقامه الشاه العام 1971 بمناسبة إحتفاله بمرور 2500 سنة على قيام الإمبراطورية الفارسية. ومع أن السنوية ليست اليوبيل الذهبي للثورة الذي تفصلنا عنه خمس سنوات، إلا أن الإحتفالات جرت في أكثر من 1400 مدينة و35 ألف قرية إيرانية، حسب وكالة INTERFAX الروسية. 

لم تكن كثيرة مواقع الإعلام الروسية والعالمية الناطقة بالروسية التي توقفت عند الحدث. وتلك التي تناولته تحدثت في الغالب عن تاريخ الثورة الإيرانية ووضع إيران في نهاية عهد الشاه، وما هو عليه الآن في ظل حكم الملالي. إضافة إلى ذلك، لم تأت المواقع الروسية على ذكر برقيات تهنئة للقيادة الإيرانية من الكرملين أو من مسؤلين آخرين، سوى من نائب رئيس الوزراء المسؤول عن ملف الطاقة ألكسندر نوفاك. 

موقع عملاق بروباغندا الكرملين RT نشر في 9 الجاري نصاً استعرض فيه المحطات الرئيسية في تاريخ إيران، منذ اعتلاء محمد رضا بهلوي عرش إيران مطلع أربعينات القرن الماضي، وحتى إنتصار ثورة الخميني العام 1979. مهد الموقع لنصه بالقول أن مؤرخين يرون أن الثورة لم تحمل طابع العداء للملكية فحسب، بل حملت أيضاً طابعا واضحاً في العداء للغرب. وأضاف بأن إيران، وعلى عكس غالبية الدول في النصف الثاني من القرن العشرين، إختارت في بناء مستقبلها طريقاً ثالثة ، قضت بعدم الإلتحاق بالمعسكر الإشتراكي أو بالمعسكر الرأسمالي. 

توقف الموقع عند الإصلاحات ـــ"اثورة البيضاء" ـــ التي بدأها شاه إيران مطلع ستينات القرن الماضي. ونقل عن المحاضر في جامعة موسكو Vladislav Zaitsev قوله بأن هدف الإصلاحات الرئيسي كان القضاء على إقطاع ملاكي الأراضي. لكن الشركات الزراعية الكبرى حلت محل هؤلاء، وازداد وضع سكان الريف سوءاً وارتفع مستوى النزوح إلى المدن، مما وسع مساحات أحزمة البؤس حولها.

أشار الموقع إلى أن إصلاحات الشاه اصطدمت بطريق مسدود اواسط السبعينات. وقال  البروفسور في معهد الإقتصاد العالمي والعلاقات الدولية Sergey Druzhilovsky أن  ملايين الإيرانيين كانوا يقطنون أحزمة البؤس، وأصبح خروجهم إلى الشارع مسألة وقت ليس إلا. 

موقع قناة التلفزة الأميركية RTVI التي تبث بالروسية نشر في 11 الجاري بعنوان "إيران تحتفل بالسنوية 45 للثورة الإسلامية. كيف كانت وماذا فعلت بالبلد". تحدث الموقع مطولاً عن أحداث الثورة والمراحل التي سبقتها، وقال أن عدد سكان إيران في العام 1979 كان يبلغ 36 مليون نسمة، وتضاعف أكثر من مرتين منذ ذلك الحين إثر دعوة الملالي لخلق جيل جديد من الإيرانيين الشيعة.

تقول كاتبة النص  Ekaterina Deriglazova أن مستوى الحياة في إيران تراجع بشدة خلال السنوات ال45 المنصرمة. فإذا كان الإيراني في العام 1978 يستطيع أن يشتري بالحد الأدنى للإجور مقدار 74 كيلوغرام من اللحوم الحمراء، لم يكن بإمكانه أن يشتري في العام 2019 أكثر من 10 كيلوغرام. وفي العام 2022 المالي حددت السلطات الحد الأدنى للأجور بما يعادل 200 دولار، في حين أن ثمن السلة الغذائية كان يساوي ضعفي هذا المبلغ. ترجع الكاتبة السبب لأزمة صناعة إستخراج النفط إثر الحرب الإيرانية العراقية، وتقول أن إيران كانت تصدر في أواخر العقد الأول من القرن الحالي النفط ومشتقاته بصورة أساسية، وتستورد المواد الغذائية. 

ترى الكاتبة أن الإصلاحات التي وعد بها الملالي لم تنفذ. والجزء الأعظم من الأراضي الزراعية بقي، كما في السابق، في أيدي كبار الملاكين  الذين يشكل رجال الدين ثلثهم. 

وبالنسبة للأجيال التي ولدت بعد العام 1979 قليلاً ما تعني لهم الثورة. وتنقل الكاتبة عن الدبلوماسي البريطاني السابق Christopher Rundle تأكيده في العام 2009 أن الكثيرين من الشباب الإيرانيين يشاهدون قنوات التلفزة الفضائية ويمارسون نشاطات لم يكن ليوافق عليها الملالي. لكنها تشير إلى انه أصبح من السهل على المرأة الإيرانية الحصول على التعليم العالي بعد الثورة. فإذا كانت نسبتهن في العام 1978 لا تتعدى2,9% ، أصبحت في العام 2016 65,5%، لكن سوق العمل لا يرحب بالنساء. وتبلغ نسبة البطالة بينهن ضعفي ما هي عليه بين الرجال،  ووصلت إلى 30% بين جيل الشباب في العام 2018. 

توسع التعليم والتزايد الكبير في عدد السكان بدّل خريطة المتطلبات الثقافية للإيرانيين وإمكانية تلبيتها. تنقل الكاتبة عن اليونسكو ان عدد صالات السينما كان 450 صالة قبل الثورة، لم يتبق منها في العام 2015 إلا 380 صالة، في حين أن رواد الصالة الواحدة كان 80 الفاً قبل الثورة، أصبح في العام المذكور 208 آلاف. وفي ثمانينات القرن الماضي كان يطبع من الكتاب 7 آلاف نسخة، أما الآن فيطبع منه 200 ألف نسخة. 

المدير الأكاديمي Andrey Kortunov للمجلس الروسي للعلاقات الدولية RIAC نشر في 12 الجاري في صحيفة NG الروسية نصاً بعنوان "الجوكر الإيراني في ورق اللعب في الشرق الأوسط". يقول المدير أن الأحداث المعقدة  والمثيرة في كثير من الأحيان في منطقة الشرق الأوسط تدفع إلى تشبيهها بلعبة الورق، حيث تكون المخاطر كبيرة ويتم خلط أوراق اللعب بشكل أكثر من كونه غريب الأطوار. ويرى أن هذه المقارنة المبسطة تفترض منح إيران دور الجوكر في ورق اللعب بالشرق الأوسط. فالجوكر هو الورقة الأكثر قوة بين الأوراق الأخرى، وبوسعها عادة أن تحل مكان أي من تلك الأوراق. وهي الورقة التي لا تنتمي إلى أي من الفئات الأربع الأخرى، الجوكر يكون دائماً منفرداً، ويأتيك حين لا تتوقعه إطلاقاً. 

بقول المدير أن الإستراتيجية الأميركية في المنطقة كان هدفها على مدى فترة طويلة تحييد الجوكر الإيراني. وكان الواحد تلو الآخر من الرؤساء الأميركيين يحاول إقناع الراي العام العالمي بأن المشكلة الرئيسية في الشرق الأوسط هي الهيمنة الإيرانية في المنطقة، وليس الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكانت تقترح وسائل مختلفة لحل "المشكلة الإيرانية"، بما في ذلك: إنشاء أوسع تحالفات ممكنة مناهضة لإيران، زيادة الضغط الاقتصادي والدبلوماسي على طهران، المواجهة الصعبة مع الجماعات الشيعية في سوريا ولبنان والعراق واليمن وأجزاء أخرى من المنطقة. وتم الترويج لـ "إتفاقيات إبراهيم"، وطرحت أفكار لإنشاء نظير عربي لحلف شمال الأطلسي، وتم تحديث البنية التحتية العسكرية الأمريكية في منطقة الخليج، وجرت محاولات لاستهداف القادة العسكريين الإيرانيين. حتى أن بعض السياسيين ذكروا أن النتيجة النهائية لكل هذه الجهود يجب أن تكون تغييرا في النظام السياسي في الجمهورية الإسلامية، بحيث يتحول الجوكر المنفلت إلى الورقة الأضعف في ورق اللعب والمطيعة لواشنطن.

يرى Kortunov أن أحداث 7 تشرين الاول/ أكتوبر 2023 وكل ما تلاها، أثبتت بشكل واضح ودراماتيكي فشل الاستراتيجية الأمريكية. فقد أعادت هذه الأحداث الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى رأس أجندة الشرق الأوسط، وأكدت الحقيقة البينة: من دون حل مشكلة فلسطين لا يمكن بلوغ سلام دائم في المنطقة.

يستطرد الكاتب في الحديث عن إستقلالية إيران وقدرتها على فرض نفسها طرفاً في أي صراع في المنطقة، وكونها الِبلد الوحيد في المنطقة الذي لايعتمد على أي طرف خارجي لضمان أمنه. وينتهي إلى القول بأن الأفضل لأمن الشرق الاوسط هو أن تأخذ كل ورقة مكانها المرسوم لها في ورق اللعب.