أربعة من أطراف الحرب ولجوا باب النقد الذاتيّ. حاول جورج حاوي في مؤتمر الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ السادس، إلّا أنّ مشروعه لم يلقَ قبولًا من قيادة الحزب فاستقال من الأمانة العامّة؛ محسن ابراهيم في تأبين جورج حاوي، بعد أن فات أوان تحويل أفكاره النقديّة إلى برنامج عمل حزبيّ؛ سمير جعجع حين انتقل في خطابه من لبنان الوطن القوميّ المسيحيّ «بين المدفون والأوّليّ» إلى لبنان الواحد «بين القليعات والقليعة»، من غير أن يعمل على بناء حزب وطنيّ غير طائفيّ؛ سامي الجميّل، بعد أن تولى رئاسة حزب الكتائب اللبنانية، قدّم مشروعاً إصلاحياً لم يحظَ بما يستحقّ من دعم لا داخل حزبه ولا في بيئته الحاضنة.
الحرب الأهليّة، كلّ حرب أهليّة، هي بالتعريف حرب ضدّ الدولة. والميليشيات هي بالتعريف اعتداء على سيادة الدولة ودستورها وقوانينها. لهذا، تبدو ساذجة مطالبة من شارك في الحرب الأهليّة، فرداً أو حزباً، في المعارك العسكريّة أو الإيديولوجيّة، أو في الكتابة عنها، بإجراء مراجعة يشير فيها إلى دوره ويحدّد حصّته من المسؤوليّة. ذلك أنّ بعض مفردات الحرب ما زالت موجودة على شكل «خلايا نائمة» توقظها تدخّلات خارجيّة أو أحداث طائفيّة أو مطامع سلطويّة، ويغذّيها نهج ميليشيويّ ترسّخ وجوده في المجتمع وفي مؤسَّسات الدولة.
وجدْتُ نفسي مدفوعاً إلى نقد الحرب الأهليّة في اللحظة التي فقدت فيها مهدي عامل، صديقي ورفيقي ودليلي إلى درب النضال، واستنتجْتُ أنّ من يستسهل قتل رفيقه في الخندق لا يستصعب قتل خصمه في الخندق المقابل، وأنّ الحرب ليست سوى التعبير الهمجيّ عن رفض الآخر المختلف، وتذكرْتُ أنّني طرحت السؤال في أوّل اجتماع حزبيّ: أليس من المحتمل أن يتواجه حبيبان على خطوط المواجهة ويطلق أحدهما النار على حبيبه؟ وأتاني الجواب، لا مكان للرومنسيّة في الحروب.
لكن، ماذا بعد أن توقّفت الحرب؟ لا حلّ إلّا بالدولة، دولة القانون والمؤسَّسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والحرّيّات والديمقراطيّة. الحلّ بأن يعيش المختلفون تحت سقف الديمقراطيّة والقوانين والدستور. الحلّ بتنظيم الاختلاف لا بتفجيره. من هنا بدأْتُ بورشة نقد الحرب ونشرت عام 1994مقالة على حلقتين في جريدة النهار تحت عنوان: أزمة الديمقراطيّة في مشروع الحريريّ وفي برنامج الحزب الشيوعيّ. وبحثاً طويلاً في مجلة الطريق عن الأصوليّات، ثم طوّرتُه وجعلته كتاباً حمل عنوان الأصوليّات، كانت حصّة الحزب الشيوعيّ منه أكبر من حصّة سواه، ثم أصدرت كتاباً عن أحزاب الله، وهو بحث في إيديولوجيّات الأحزاب الشموليّة، أي كلّ الأحزاب التي تعتمد خارطة طريق لا تعترف فيها لا بالديمقراطيّة ولا بدولة القانون.
هذا الكتاب دعوة إلى الانخراط في ورشة نقد ذاتيّ كنت أرجو أن تحصل بديلاً من طاولات حوار عقيم عُقِدت أكثر من مرة بين أبطال الحرب الأهليّة. إحجام الجميع عن هذه المهمّة دفعني إلى أن أتناول نيابة عنهم دور كلّ من شارك في الحرب بالسلاح أو بالقلم أو بإدارة الظهر أو بالتفرّج على مآسي اللبنانيّين المتعاقبة، لعلّ ذلك يكون حافزاً لفتح حوار بين من تمترسوا خلف أكياس الرمل أو خلف الأفكار والكلمات أو خلف الأوهام.
توجّهتُ في هذا الكتاب إلى المارونيّة السياسيّة والكسليك والشيعيّة السياسيّة و»حزب الله» وحركة «أمل» وأهل اليسار والإسلام السياسيّ والأصوليّات على أنواعها والتنظيمات القوميّة والعلمانيّين والفدراليّين ورجال الدين والقطاع المصرفيّ ومنظَّمة التحرير الفلسطينيّة والنظام السوريّ والممانعة والمجتمع الدوليّ، لأستفزّ فيهم حرصهم الافتراضيّ على وطننا الحبيب لبنان.
المصدر: نداء الوطن