الساحة نقيض الوطن. وليست «وحدة الساحات» خارج الشرعية وضمن الإستراتيجية الإيرانية سوى حكم بالإعدام على الدولة ومشروع تجديدها. اما فتح الجبهة الجنوبية لمساندة «حماس» ضد رغبة الأكثرية من اللبنانيين المعترضين على الحرب المحدودة والمحذرين من حرب شاملة تدمر البلد، فإنه وصفة لتعميق الإنقسام الوطني والسياسي بما يهدد اساس البلد، وهو الوحدة الوطنية، ورسالته، وهي العيش المشترك. وأما «الوطن النهائي لجميع ابنائه» حسب الدستور بعد اتفاق الطائف، فإنه صار مرحلة موقتة في مشروع «الولاية» بقيادة ايران، وبالتالي ساحة مفتوحة تراها تيارات الإسلام السياسي الإرهابية «ارض الله» التي لا حدود لها وفيها امام جند الله من اي مكان.
ذلك ان استعادة التجربة الفلسطينية في الجنوب عبر عمليات «كتائب القسام» و»سرايا القدس» في ظل الهيمنة الإيرانية ليست مجرد مسألة رمزية لمساعدة غزة. وهي تعيد التذكير بمنطق قوى عربية «ثورية» رداً على التحذير في اوائل الستينات من أن جبهة الجنوب اللبناني هي الأضعف من بين الجبهات في «دول الطوق»، اذ قالت بصراحة: «نريد تغيير لبنان ولذلك نفتح الجبهة الضعيفة». وما حدث هو الحرب والإجتياح الإسرائيلي والدخول السوري، والإنتقال من تعددية المقاومة ايام الفصائل الفلسطينية ثم القوى الوطنية اللبنانية بعد الإحتلال الإسرائيلي، الى أحادية المقاومة عبر «حزب الله»، والعودة حالياً الى تعددية تنظمها «المقاومة الإسلامية». والكل يعرف ان الجمهورية الإسلامية في إيران هي «قوة تغيير»، وسط «قوى ستاتيكو» عربية وخارجية. وما فعلته وصولاً الى «وحدة الساحات» هو تأسيس بنية تحتية عسكرية وإنشاء فصائل ايديولوجية مذهبية في العراق وسوريا ولبنان ودعم الحوثيين في اليمن و»حماس والجهاد الإسلامي» في غزة. والشعار طبعاً هو مقاومة اسرائيل ومواجهة أميركا وتحرير فلسطين. لكن هذا هدف على الطريق الى مشروع إقليمي كبير يشكل قمة التغيير الذي يحتاج الى أزمات وحروب.
وعلى طريقة تشرشل الذي قال لستالين في قمة يالطا «إن الحقيقة ثمينة جداً، ولذلك يجب ان نحوطها بسور من الأكاذيب»، فإن الجمهورية الإسلامية التي «حماية النظام واجب الواجبات» فيها، كما قال الإمام الخميني، تعمل لكي تحوط نفسها بسور من الميليشيات والأزمات والحروب، من دون ان تخوض هي الحروب مباشرة. وهذه هي المهمة المركزية لـ»وحدة الساحات» بمعنى تنسيق العمليات العسكرية بينها في وقت واحد، وحرية الحركة لأي فصائل على الساحة الضعيفة في لبنان.
ولا شيء بالصدفة. «أمل» قبل «حزب الله» كان يشرف على تدريبها وعملها مصطفى شمران الذي تولى وزارة الدفاع في ايران. قاسم سليماني كان حاضراً في قيادة المعارك التي خاضها «حزب الله». وفي عام 1982 كما يروي عبد الحليم خدام في مذكراته، أرسلت ايران «لواء من الحرس الثوري الى سوريا بالإتفاق معها، وقد توجه قسم كبير منه الى بعلبك وتشكيل «حزب الله». لم يكن الرئيس حافظ الأسد قلقاً من النفوذ الايراني، كما لم يكن في ذهنه أن ايران تبني قاعدة عسكرية وسياسية في لبنان تهدف لخدمة استراتيجيتها، وأن لديها طموحاً للتوسع الإقليمي. لم يكن يقلقه التمدد الإيراني في لبنان، وكان في ذهنه دائماً صدام حسين من جهة ولبنان من جهة اخرى، وفي المسألتين «ايران هي الحليف». وأخطر ما يحدث اليوم هو ان تتقدم دوافع «وحدة الساحات» على ثوابت الوحدة الوطنية في حرب لا تحمي لبنان من التدمير، بصرف النظر عن إحداث دمار في إسرائيل. فكيف اذا جرى اعتبار لبنان رهينة في استراتيجية حرب دائمة؟ وكيف اذا تصرفت الأكثرية كأنها ضعيفة في مواجهة الإنفراد بقرار الحرب والسلم والسياسات الأساسية من خارج الشرعية التي صارت ايضاً رهينة؟ كان ماركس يراهن على «تسريع ولادة الآلام التاريخية» لإختصار الطريق الى المستقبل الشيوعي. لكن التجربة انتهت الى العكس. وما اكثر الدروس التي علينا ان نتعلمها.
المصدر: نداء الوطن