منذ العام 1965، وعلى خلفية تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لإجبار دول العدوان الثلاثي على الانسحاب من الأراضي المصرية، عوّلت العواصم العربية، وفي القلب منها القاهرة، على مواقف القوتين العظميَين، وذلك في ترسيم مخططاتها للسلم والحرب على السواء.
كانت تلك الحسابات الموجهة بشكل حصري نحو الخارج، ومعلّقة على توازنات النظام العالمي، ومحكومة بإدراك للقدرات الذاتية المحدودة وقصورها عن حسم أي معركة مع إسرائيل بالنصر العسكري. هذا في حالة الحرب، أما في حالة السلم، فإن لجم العدوان الإسرائيلي، لم يكن بالضرورة محكوماً بعنصر الردع العربي، بقدر ما كان مؤطراً بضمانات القوى العظمى. وفي الوقت ذاته، سعت العواصم العربية لإبقاء حالة التهديد بالحرب قائمة، كبديل من الحرب الحقيقية، أي بوصفها حلاً وسطياً يقف حائلاً أمام تصفية القضايا العربية ويمنع تطبيع الوجود الإسرائيلي، بموازاة إعفاء الذات من الأكلاف الفادحة للحرب.
ثم أثبتت النكسة فشل تلك التعويلات. فالتطمينات الخارجية قبل الحرب، لم تمنع الهجوم الإسرائيلي الكاسح، بل أدت دوراً فاعلاً في نشر ضبابية خداع الذات والتمهيد للهزيمة. ولاحقاً لم ترغم إسرائيل بفعل الضغط الدولي، على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، كما كان مأمولاً على غرار الانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي.
كانت خطة حرب أكتوبر 1973، على الأقل في شقّها المصري، اعترافاً آخر بمحدودية القدرات، لذا تركزت على تحقيق تقدم عسكري كبير لكنه محدود، وذلك بعبور القناة والوقوف بالقوات المصرية على ضفتها الشرقية من دون التوغل في سيناء، ومن ثم كانت المراهنة على تعميق الخسائر الإسرائيلية وحث القوى العظمى، وبالتحديد الولايات المتحدة، على التدخل، وإرغام تل أبيب على الجلوس على مائدة التفاوض. وهو ما حدث بالفعل، مفضياً إلى اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية.
في كل حرب عربية لاحقة، من حروب لبنان إلى حروب غزة، فرض فارق القوى الهائل لصالح إسرائيل، معادلة عربية للمعارك، تفترض أو تستدعى تدخلاً أميركياً. مثلاً، في حرب لبنان الأولى، كان تدخل الرئيس الأميركي رونالد ريغان، بشكل شخصي، محورياً في إنهاء العدوان الإسرائيلي. هكذا، وفي موجة الحروب اللاحقة على كامب ديفيد، والتي خاضتها من الجانب العربي تنظيمات مسلحة لا دول، كان الهدف دائماً تنغيص الوجود الإسرائيلي وتغليظ كلفته، وبالتالي تحريك المياه الراكدة للوضع القائم، فيما كانت الأدوات العربية محصورة في تحويل المنطقة إلى بقعة تهديد دائم بالانفجار في خريطة النظام العالمي، ووضع القوى الدولية أمام مسؤولياتها تجاه الخسائر البشرية الهائلة المتوقعة جراء هجوم إسرائيلي عنيف. بهذا تبدو خطة الجانب العربي لإنهاء كل حرب مع إسرائيل مقتصرة على استدعاء العالم.
نسخت "حماس" التصور الموروث ذاته، فتقدُّم المشروع الإبراهيمي بدا وكأنه الخطوة الأخيرة نحو تصفية القضية الفلسطينية، ومن ثم فرض الضرورة الملحة لزعزعة حكم الأمر الواقع، وذلك عبر العنف. والحال أن التنظيمات الفلسطينية تحيط، من دون أوهام، بقدراتها المحدودة في أي اشتباك عسكري مع العدو. تركزت خطة السابع من أكتوبر على إلحاق أكبر أذى ممكن بالإسرائيليين، في هجوم خاطف، وهو ما تحقق بشكل فاق على الأغلب تصورات مهندسي الهجوم أنفسهم.
أما رد الفعل الإسرائيلي المتوقع، وسلسلة التبعات العنيفة المنتظرة للهجوم، فتُركت جميعها معلقة على رهانات محدودة، وهي الضغط على الداخل الإسرائيلي بورقة الأسرى، وتوقع مذبحة إسرائيلية واسعة تستدعي تدخلاً دولياً يقود إلى وقف القتال والتفاوض على إعادة تشكيل الخريطة الجامدة للوضع الراهن.
اليوم وبعد أكثر من 150 يوماً من الحرب، يظهر قصور استراتيجية "حماس" الوحيدة، فتوقُّع التدخل الأميركي لم يُفضِ سوى إلى خداع ذاتي ساهم في تبديد الأوراق القليلة المتاحة للمساومة. وفي الهدنة القصيرة التي شهدها القتال، ظهر في أداء "حماس" الاستعراضي أثناء عملية تبادل الأسرى، تصوراً لإمكانية تمديد الهدنة حتى وقف كامل للحرب، وهو ما استغلته تل أبيب للحصول على القدر الأكبر من المكاسب ومن ثم استئناف العدوان.
الضغط الأميركي الحالي من أجل التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، لا يشير إلى انتصار متأخر لاستراتيجية استدعاء العالم. ففي اللقاء الأخير لنائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، مع بيني غانتس وزير الحرب الإسرائيلي، يظهر دعم أميركي لاستكمال القتال، بعد هدنة مدتها ستة أسابيع، تسمح بخروج الرهائن الإسرائيليين وإنقاذ الوضع الإنساني في غزة من الانهيار. أما بخصوص عملية لاحقة في رفح، فإن تصريحات هاريس لا تعارضها، بل تعرب عن مباركة أميركية مشروطة بخطة إنسانية سابقة عليها.
من شأن مبدأ استدعاء العالم أن يعمل في النهاية، فالحرب لن تستمر إلى الأبد. لكن السؤال الذي سيكون من الواجب طرحه لاحقاً هو: بأي ثمن؟
المصدر: المدن