في الجملة نفسها، يحدد بايدن، رفح، كخط أحمر أمام إسرائيل لا يمكنها تجاوزه، ثم يعود ليجزم بأنه لا خطوط حُمر، وأنه لا يمكن أن يتخلى عن إسرائيل.
كان يمكننا اعتبار ذلك التناقض، زلة لسان سياسية، تم إصلاحها في الحال، أو أنها واحدة من عثرات تقدم السن العديدة التي يقع فيها الرئيس الأميركي، لولا أن السياسة الأميركية بشأن غزة وصلت إلى مرحلة ذهانية، عنوانها الوحيد هو الفصام، والتحليلات الغربية للإجراءات المترتبة على تلك السياسة هي أيضاً لا تقل فصامية.
تشارك الولايات المتحدة في استعراضات الألعاب الجوية في سماء غزة، تلك التي لم تُفضِ إلى شيء سوى وجبات بالكاد تكفي نسبة واحد في المئة من السكان، وقد قتلت خمسة منهم إثر خطأ في إسقاط طرود المساعدات. وتعتبر أعمدة الرأي في الصحف الغربية، تلك الخطوة اليائسة، إهانة لبايدن على يد نتنياهو. وفي الوقت ذاته، تعدّ الجرائد نفسها، الطلعات الجوية الأميركية المحملة بالوجبات المجففة، لطمة من البيت الأبيض على وجه الحكومة الإسرائيلية. لا نعرف مَن يلكم مَن، لكن الأكيد أن لعبة الشرطي الطيب والشرطي الشرير، توقفت. انسحبت إسرائيل من اللعب، وبات على واشنطن -التي لم تعد تجد شريكاً مناسباً- أن تؤدي الدورَين معاً.
بالطبع ثمة ثنائيات باقية يتم ترويجها: إسرائيل ليست حكومتها، وغانتس ليس نتنياهو، بل وأحياناً يصور الأخير على أنه رهينة في يد وزراء اليمين المتطرف في حكومته. لكن، ومع تكثير تلك الثنائيات، تظل استطلاعات الرأي تشير إلى أن الغالبية الساحقة داخل إسرائيل تؤيد الحرب في غزة، مع تفاوتات يتعادل فيها من يظنون أن إسرائيل ذهبت فيها أبعد مما يجب، مع من يظنون إنه كان لازماً استخدام المزيد من الشدّة.
أما الولايات المتحدة، ففي عالم القطب الواحد، تؤدي هي دورَي القطبَين، أو بالأحرى الأدوار كلها. واشنطن، التي كانت تلح على التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار قبل حلول شهر رمضان، هي نفسها استخدمت حق الفيتو، المرة تلو الأخرى، ضد قرارات مجلس الأمن الداعية إليه بصيغ مختلفة. وبعدما كان الرئيس بايدن يشكك في أعداد القتلى من الفلسطينيين حين كانوا بالمئات في بداية الحرب، اليوم هو نفسه يصرح إنه من غير المقبول أن يسقط 30 ألفاً آخرين. وفي حين يتهم البيت الأبيض ضمنياً، تل أبيب، باستخدام المعونات الإنسانية كورقة ضغط، تقاوم الإدارة الأميركية أي مطالبة بوضع شروط على شحنات السلاح المستمر إلى اسرائيل. ويبلغ الاستهتار بالحياة البشرية مداه، حين تجمد الولايات المتحدة وحلفاؤها دعمهم للأونروا، وتعود وزارة الخارجية الأميركية لتعلن أن الوكالة تؤدي دوراً حيوياً ولا بديل لها.
بايدن الممزق بين ترضية الناخبين اليهود، وبين عدم خسارة الناخبين العرب والمسلمين، عليه أن يقدم القنابل إلى إسرائيل بيَد، بينما يلقي بالمساعدات على سكان غزة باليَد الأخرى. والحال أن الرصيف البحري الذي تشرع في بنائه قوات المارينز الأميركية على شواطئ شمال غزة، كما يساهم في تخفيف المجاعة المفجعة هناك، فإنه يقبل بمواصلة إسرائيل لحربها لشهور مقبلة، حيث أن إنشاء الميناء المؤقت قد يستغرق شهرين على الأقل.
وعلى المقياس المزدوج نفسه، يعني الحديث الأميركي عن السعي لتوفير مليونَي وجبة يومياً، اختزال فاجعة غزة في مسألة جوع، ومن ثم إعفاء إسرائيل -بوصفها قوة احتلال- من مسؤوليتها القانونية تجاه سكان القطاع.
الهيمنة الأميركية قادرة أن تقدم لجمهورها حول العالم ما يكفي من مواقف للتماهي معها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. من صورة القوة العسكرية الباطشة بقدراتها شبه الإلهية، إلى عمليات الإغاثة الإنسانية الواسعة التي تشرف عليها الآلة الحربية نفسها. في ليلة جوائز الأوسكار، قبل أيام، برزت شارات "وقف إطلاق النار" على صدور المشاركين تضامناً مع غزة، وفاز فيلم "أوبنهايمر" بنصيب الأسد من الجوائز. فالولايات المتحدة هي البلد الذي يرتكب جُرم القصف النووي، ثم يهنئ نفسه بنصف دزينة من الجوائز لفيلم عن المعاناة الأخلاقية لصنّاع القنبلة.