"الحشاشين"

التاريخ، بوصفه وقائع وأسماء وأحداثاً، لا يعني الدراما إلا في جانبه الروائي، أي كونه مادة خام للتخييل ولرسم الحبكة والشخوص ومصائرها. أما حين يتعلق الأمر بالبروباغندا، فإن التاريخ ليس سوى أمثولة يمكن قياس الحاضر عليها، أو درس يتم استحضاره من الماضي بتبسيط العلاقة بين الزمنين.

في شاشة الدراما الرمضانية المصرية، الحافظة لسجل طويل من دعاية جهاز الشؤون المعنوية وأمثولات الوطنية المتراوحة في جمالياتها الفنية، يعود المخرج بيتر ميمي بمسلسله "الحشاشين"، ليثير موجات من الجدل في بركة النقاش العام الراكدة.

قبل حلول الشهر الكريم، بشّرتنا جريدة "الوطن" بـ"صراع عروش" مصري، أي فانتازيا بمسحة تاريخية ذات ميزانية ضخمة وتقنيات مبهرة. ويُعدّ ميمي متعهداً لدراما البروباغندا السياسية للنظام الحالي، بعد نجاح المواسم الثلاث لمسلسل "الاختيار". لذا، فإن اسمه على المسلسل الأخير كان كافياً لتوقع مضمون سياسي له طابع دعائي. التكهنات السابقة بشأن موسم رابع لـ"الاختيار" لم تكن خاطئة تماماً، فـ"الحشاشين" صيغة مراوغة وأقل مباشرة منه، ولعلها أكثر فاعلية في سياق الدعاية المناهضة للإسلام السياسي.

تظل الفصحى مرتبطة بالدراما التلفزيونية التاريخية، وبالأخص إن كان تتناول تاريخاً إسلامياً. والحال أن توظيف الفصحى في لغة الحوار يفي بأغراض متعددة. من جهة، يفصل الماضي عن الحاضر لغوياً، بغية تعميق الشعور بتاريخية التاريخي. وهو أيضاً يرسّخ أيديولوجيا الأصول والأصالة، أي كما أن الإسلامي يأتي مرتبطاً بالفصحى، وبالتبعية الماضي، فلا يمكن تصوره خارج تلك الثنائية. فنقاوة اللغة وقياسيتها وثباتها المتخيل، تنسحب أيضاَ على هذا التاريخ شبه المقدس. قصداً أو ربما من دون قصد، يكسر ميمي عن هذا العرف الراسخ، ويستخدم العامية المصرية في مسلسله التاريخي.

لا يقدم "الحشاشين"، السارد لسيرة حسن الصباح وفرقته الباطنية، تاريخاً إسلامياً. ليس تاريخاً يتعلق بالإسلام بمعناه وتصوره الواحد القويم والنقي. بل يجسد تاريخاً لإسلامات أخرى، إسلامات متعددة ومعطوبة وملوثة وضالة. هكذا، تبدو العامية، بحسب تصورها كنسخة متدهورة وركيكة من الفصحى، لائقة بذلك التاريخ الدنس. علاوة على ذلك، توسع العامية من دائرة مشاهدي العمل وجماهيريته، وتيسّر إسقاط التاريخي مباشرة على الحاضر، بكسرها الحائل اللغوي المفترض بين الأزمنة.

النقد الذي واجهه المسلسل بسبب استخدام العامية ولأسباب أخرى عديدة، سرعان ما استدعى رداً من صنّاع العمل والمدافعين عنه، وجاء الرد متعجلاً، وهو يفسر الإسقاط المقصود في "الحشاشين"، شارحاً أنه يقصد جماعة "الإخوان المسلمين"، على محاور توظيف الدين لأغراض السياسية والعنف والسرية. ولعل تلك العجلة، كان دافعها الرئيسي هو عدم الثقة في قدرة الجمهور على التأويل، والقلق من أن الاستغراق في أسئلة حول الدقة التاريخية للأحداث أو الاستمتاع بالحلقات على محمل الفانتازيا المثيرة والمسلية، قد يضيّع الرسالة السياسية المقصودة. بتلك الطريقة، تحايل صنّاع المسلسل على سؤال المباشرة، بحيث يبقون عملهم الفني على مسافة مريحة من الرسائل الحرفية، بينما يأتي التفسير من الخارج في صورة بيانات إعلامية ملحقة تقوم بتلقين الجمهور.

بعد حلقات قليلة، أثار "الحشاشين"، جدالات دائرية ومكررة عن علاقات الفصحى بالعاميات وعن حدود التاريخي والفني. لكن الأهم أنه قدم نموذجاً لتطور الدراما الدعائية للمنظومة الإقليمية قيد التشكل، ورسائلها التي تصاغ بشكل رئيسي في القاهرة والرياض. يضرب المسلسل أكثر من طائر بحجر واحد، بتقنيات الصورة العالية ومستوى الديكورات والأزياء اللافت، يستطيع منافسة الدراما التاريخية التركية ذات الجماهيرية العالية في العالم العربي والزاخرة هي الأخرى بالمضامين السياسية. أما إسقاطات "الحشاشين"، فكما تُعدّ نقداً للإسلام السياسي وحركاته في الدول ذات الغالبية السنية، فهي أيضاً تبدو مفعمة بالتشكيك في الصحة العقائدية للفرق الشيعية، وبالتبعية لسياسات إيران وحلفائها في المنطقة.

المصدر: المدن