خالف شهر رمضان بعض التوقعات، فلم يكن مختلفاً عن المعتاد. حتى التصريحات الدولية، والتغطية الإعلامية تالياً، أوحت بأنه شهر له خصوصية يُحسب حسابها. على ذلك استبقته جهود دبلوماسية من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وطالبت واشنطن "بوصفها الداعم الأكبر لإسرائيل" بهدنة خلاله، وإن عرقلت حتى منتصف الشهر صدور قرار أممي يدعو إلى وقف إطلاق النار، ليتم ترحيل الأمل بالهدنة إلى عيد الفطر.
كانت تلك الأجواء توحي باحترام حساسية الشهر عند المسلمين، وتوحي أيضاً بأن المسلمين قد يغضبون خلاله لأجل الفلسطينيين على نحو يصعب التنبؤ به أو ضبطه، ومن المستحسن تفادي ذلك لئلا تخرج الأوضاع عن السيطرة. إلا أن هذا لم يحدث، وانضم شهر رمضان إلى مناسبات عديدة، متوالية منذ عقود، خيّبَ فيها المسلمون أو العرب التوقعات أو الآمال، فلم تفعل أنظمتهم ما هو مطلوب منها، ولم يزحفوا رغماً عن تلك الأنظمة لنصرة أشقائهم في الدين أو العروبة.
وإذا استخدمنا لغة التوبيخ القديمة، يمكن القول أن العرب والمسلمين انهمكوا في متابعة مسلسلاتهم الرمضانية، وبعضهم تربّع على قمة "التريند" على حساب أخبار المجازر في غزة. وانهمكوا أيضاً في مآدب إفطارهم وسحورهم، من دون الحساسية المرتجاة تجاه أهالي غزة الواقعين تحت الحصار والتجويع. مثل هذه اللغة تم تداولها أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، حيث كُتب الكثير في تقريع أولئك المنشغلين حينئذ عن مأساة أشقائهم بمتابعة مجريات كأس العالم لكرة القدم. وسجلُّ الخيبة حافل بمناسبات شبيهة.
في أحسن أحوال التبرير لأولئك الذين لم يزحفوا لنصرة أشقائهم، يُقال أنهم مغلوبون على أمرهم من قبل حكّام بلدانهم، وأنهم لو امتلكوا زمام قرارهم لفعلوا بالتأكيد ما هو مأمول منهم، وقد تدعم هذه الفكرة مشاركة ملحوظة لعرب ومسلمين في الاحتجاجات التي تشهدها عواصم ومدن عالمية كبرى مناهضة للحرب على غزة. إلا أن فكرة توفر الحرية في الغرب وانعدامها في المنطقة العربية لا تفسّر بعموميتها هذا البون الشاسع بين الواقع والآمال، وهي "على صحتها من حيث المبدأ" يُستحسن ألا تبقى فكرة رومانسية عن "معجزات" الحرية.
واقعياً، تحرّك المحتجون في الغرب عندما أدرك معظمهم أنه ليس هناك خطر وجودي على دولة إسرائيل، واكتسبت بداية الاحتجاجات زخماً مع مشاركة ملحوظة من محتجين يهود في الولايات المتحدة. المسألة هنا مركّبة، فالاحتجاجات حدثت في الدولة الأكثر دعماً لإسرائيل وفي مركز العالم الغربي، ومن يهود لا يمكن الطعن بهم باتهامهم بمعاداة السامية، وهذا ما شجّع محتجين من مختلف المشارب في بلدان غربية أخرى.
ما له أهمية كبيرة أيضاً أن المحتجين تحرّكوا حيث يعتقدون أنهم فاعلون سياسياً، وأن النخب الحاكمة ستأخذ أصواتهم بالاعتبار، وحتى إذا لم تفعل ذلك فوراً فإن النشاط السياسي التراكمي كفيل بإحداث تغيير على المدى المتوسط أو البعيد. على هذا القياس أيضاً يمكن بسهولة تخيّل الواقع الرثّ لمعظم البلدان العربية والإسلامية، حيث لا يملك رعاياها أدنى قيمة أو فاعلية سياسية، وحتى إذا كان قسم منهم قادراً على التظاهر والاحتجاج فهو لا يؤمن بأن السلطة ستعيره اهتماماً، هذا إذا كان لسلطة بلده وزن مؤثّر في الحدث. من نافل القول أن معظم هؤلاء الرعايا محرومون أولاً من الفاعلية السياسية في ما يخص عيشهم، ويقتضي المنطق أن الذي لا يكون فعّالاً لأجل ذاته لن يكون كذلك من أجل سواه؛ والعكس تماماً هو ما روّجته أنظمة قمعية تاجرت بالقضية الفلسطينية طوال عقود.
الأهم ربما أن الآمال التي تدور بطريقة أو أخرى حول زحف عارم "فعلي أو رمزي" لا تستطيع إسرائيل مقاومته مبنية على وهمين، وهْم الرابطة القومية ووهم الرابطة الإسلامية. بل إن جزءاً مهماً من آلية اصطناع الوهمين قائمة على اعتبارهما من البديهيات، ليكون الوهم وفق هذا صحيحاً دائماً، وعندما تكذّبه الوقائع فالعيب أو الخلل يكون فيها لا فيه.
من المفارقات أن الحديث عن تشظّي مجتمعات المنطقة العربية صار دارجاً، فالعداوات البينية بين اللبنانيين أمضى من أن يكون لهم مجتمعين عدو واحد، ونظيرتها بين السوريين يشرحها انقسام سوريا بين قوى احتلال لها زبائن كثر من السوريين... والقائمة تطول. ولا يبدو أن الصورة المتخيَّلة عن الرابطة القومية أو الإسلامية تتماشى مع واقع الانقسام، وكأن هذه الصورة اكتسبت مع مرور الزمن استقلالية عن الواقع وعن المنطق معاً. لكن بخلاف الصورة الراسخة، ليست الانقسامات والعداوات بين العروبيين أقل أو أخفّ من الانقسامات المجتمعية، وكذلك هو حال العداوات بين الإسلاميين، والتيارات القومية والإسلامية إذا كانت توحّدها مظلة فضفاضة من الفكر فالسياسة تفرّقها على نحو يطعن تلك المظلة من داخلها.
ربما كان الإنجاز الأقوى لوهم الرابطتين هو جلْد المجتمعات "العربية" و"الإسلامية"، وزرع وتعزيز فكرة الخذلان مما هو عربي وإسلامي لدى الفلسطينيين، أي أن أهم إنجاز للقوميين والإسلاميين هو تسميم الأجواء العامة عقاباً للآخرين. هذا النهج لم يقدّم للفلسطينيين فائدة تُذكر طوال عقود، وهو بمثابة حجاب يمنع التفكير في الموضوع الفلسطيني من منطلق غير عصبوي أو قبَلي. فالرابطة الثقافية، إسلاميةً كانت أو عربية، من المحتّم ألا تتجسّد سياسياً بالمعنى المباشر لأنها أوسع وأكثر تشعّباً من متطلبات السياسة. ولو كانت هي المعيار المعاصر لتوجّب النظر إلى اليهود والمسيحيين من مناهضي إسرائيل كخونة لكتابهم المقدّس بدل امتداحهم، إلا إذا انطوى امتداحهم على انتهازية رخيصة لا تقيم لهم أدنى تقدير.
والحق أن استجلاب التضامن على أسس عاطفية عصبوية، فوق فشله، يفوّت فرصة تعزيز المفاهيم التي تدعم الفلسطينيين على أسس عقلانية ومستدامة، وهي موجودة في القوانين الدولية المتعلّقة بالسلم أو الحرب. اعتماد هذه القوانين لا يعني تحييد المشاعر المدفوعة بمؤثرات ثقافية، لكنه لا يعوّل عليها ولا يعتبرها معياراً. من جانب آخر شديد الأهمية، للقوانين الدولية "وهي ملك البشرية" سلطة معنوية لإنهاء الجدل الأخلاقي الذي يتلطى فيه البعض وراء نسبوية هي لا أخلاقية في جذرها، ويمكن القول بموجب هذا القياس أن ما هو غير قانوني وفق المواثيق الدولية هو غير أخلاقي أيضاً.
بالطبع، يبقى هناك عامل له أهميته، ويُغطّى عليه باسم التضامن أو التضامن المفقود، فالتضامن يعبّر عادة عن مشاعر آخرين غير متضررين أو لا صلة لهم بالحدث. في الحالة الفلسطينية، وبشرط ألا يُستخدم هذا للوصاية على الفلسطينيين، يُستحسن الانتباه إلى تأثير ما يحدث في فلسطين على الإقليم كله ومستقبله؛ المستقبل الذي سيكون أفضل إذا أتى بنموذج لحلٍ القضية الفلسطينية ملهمٍ للجوار.
المصدر: المدن