لا يبدو أنّ لبنان سيعود إلى الحد الأدنى من الستاتيكو الذي سبق بدء الحرب على غزة. فالعوائق تراكمت أمام انتظام أي صيغة لإدارة الوضع في البلد، سواء كانت مرحلية ومؤقتة، أم يمكن أن تأتي وفق مسار مرسوم ينقله إلى انتظام مؤسساته الدستورية بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية.
تحتاج هذه العوائق إلى تفكيكها الواحدة تلو الأخرى، ويصعب معالجتها دفعة واحدة. التحلل في المؤسسات، وربط قيام الدولة بالتسويات السياسية المتعذرة لأسباب تتعلق بالوضع الإقليمي، جعل الهرطقات الدستورية والقانونية التي تعمّق الانقسامات السياسية، هي القاعدة. إنها الفوضى التي تتسع دائرتها كل يوم على طريق الاهتراء الكامل. في هذه الحال يسهل ضياع المسؤولية وإخضاع الحقائق للأهواء، بما فيها حين بات الأمن المهتز وتزايد الصعوبات الاقتصادية بتغييب الحلول لها مع المجتمع الدولي، وتراجع سبل العيش وتفاقم مشكلة النزوح السوري وفلتان الحدود البرية والبحرية ذهاباً وإياباً، وأحادية قرار الحرب جنوباً في يد فريق سياسي، هي سمات تعايش اللبنانيين مع اللامعقول.
لم يعد ممكناً الخروج من حالة الوطن العالق في شبكة عنكبوتية من التعقيدات، من دون وقف الحرب الدائرة في الجنوب. فعليها يتوقف أي ترتيب لأوضاع لبنان الداخلية ولعلاقاته مع الخارج القريب والبعيد. وعليها تتوقف حسابات أصغر مواطن في حياته اليومية: هل تتطور حرب الإشغال التي أُقحِم لبنان فيها، إلى حرب واسعة تفرضها أهداف إسرائيل، أم تبقى حرباً محدودة ومضبوطة، أم يتوقف تبادل الضربات بين إسرائيل و»حزب الله»؟
صار مسلماً به حتى من الوسطاء الدوليين، أن لا بحث بوقف حرب الجنوب قبل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة. ولبنان سيبقى يشهد العد التصاعدي لانهياره، على رغم الوعود بانتصاره في النهاية غير الواضحة معالم نهايتها حتى اللحظة. لذلك يتطلع المعنيون في ما تبقى من سلطة في البلد، ضمناً، إلى أخبار مفاوضات الهدنة بين إسرائيل و»حماس»، حين يتصدون لأي معضلة مزمنة أو طارئة، بما فيها مباحثاتهم مع قبرص حول وقف تسرب النازحين من لبنان إلى شواطئها... وعندما تواجههم معضلة أمنية خطيرة مثل جريمة اغتيال باسكال سليمان التي تركت أسئلة وخضت البلد.
حتى حركة لجنة الدول الخمس المعنية بإنهاء الفراغ الرئاسي، بكّرت في أخذ إجازة لعل مفاوضات الهدنة في غزة تنجح في إرسائها، على رغم دعوتهم المتواصلة إلى فصل أزمة الشغور عن وضع الجنوب وعن حرب غزة، وعلى رغم الإعلان المتكرر من قبل «حزب الله» بعدم ربط الاستحقاق الرئاسي بنتائج الحرب. فخلف الدعوات إلى الفصل لا يخفي قادة الحزب و»الثنائي الشيعي» قناعتهم بأن الجميع ينتظر رسو تلك الحرب على معادلة ما، من أجل ترتيب الأوضاع الإقليمية ومن ضمنها المعالجات لأزمة لبنان.
إذا صحت القناعة بأن لا أمل من بحث أي حلول قبل هدوء جبهة الجنوب لرسم مسار الحلول في لبنان، وإذا صدقت المعطيات بأن الرد الإيراني الانتقامي على قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في سوريا سيجنّب لبنان و»الحزب» كأس التفاعلات التي ستنجم عن هذا الرد، فإنّ معطيات بعض الأوساط الوثيقة الصلة بالترتيبات المحتملة لأوضاع الجنوب تبدو واثقة من أنها قطعت شوطاً ستظهر معالمه فور نجاح الهدنة في غزة.
بحسب هذه الأوساط أنجز الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، أثناء زيارته الأخيرة إلى بيروت مطلع الشهر الماضي، ثم أثناء وجوده في واشنطن وعبر إحدى أعضاء فريق عمله التي بقيت في بيروت لأيام، جملة بنود في مفاوضاته مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، حول مسألة تحديد الحدود البرية، تشكل أساساً لضمان التهدئة في الجنوب وتتعدى وقف النار. يستند ما أُنجز إلى ورقة بالاقتراحات عرضها هوكشتاين جرى تعديلها إثر ملاحظات بري. وهو يشمل اتفاقاً كاملاً على ما تبقى من النقاط الـ13 الحدودية البرية، وهي 6 نقاط، بما يتناسب مع الترسيم الرسمي للحدود الذي يطالب لبنان بالرجوع إليه. ويتضمن ذلك الموافقة على وجهة النظر اللبنانية بأن نقطة الـB1 عند رأس الناقورة تعود إلى السيادة اللبنانية، كذلك الجزء الشمالي من قرية الغجر. لكن التفاهم بين هوكشتاين وبري لم يشمل مزارع شبعا المحتلة وتلال كفرشوبا التي سيتم ترحيل التفاوض حولها إلى مرحلة لاحقة. وتُرك مطلب لبنان وقف الخروقات الجوية والبحرية الإسرائيلية إلى التفاوض بعد وقف حرب غزة، بموازاة البت في تطبيق الجزء المتعلق بالمنطقة الخالية من السلاح جنوب الليطاني وفق القرار 1701.
المصدر: نداء الوطن