بعد حملة مقاطعة فعالة ضد عدد من العلامات التجارية العالمية، على خلفية الحرب في غزة، شملت سلاسل مقاهٍ ووجبات سريعة مثل ماكدونالدز وستاربكس وسلاسل مراكز تجارية مثل كارفور، أعلن بعضها خسائر معتبرة وغير متوقعة تجاوزت توقعات دعاة المقاطعة أنفسهم. وشملت تلك الخسائر تراجعاً في مستويات النمو في أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهبوطاً في أسعار أسهم الشركات الأم. وعلى تلك الخلفية، أعلنت شركة ماكدونالدز العالمية، قبل أيام، شراءها كافة فروع امتيازها الـ255 في إسرائيل، وذلك بعد أسابيع من تصريح مديرها التنفيذي أن الحرب في غزة تضر بأعمالها في المنطقة.
"لم تخض أي دولتين لديهما مطاعم ماكدونالدز حرباً ضد بعضها البعض"، توجز تلك العبارة نظرية "القوسين الذهبيين" التي وضعها الصحافي الأميركي، توماس فريدمان، في كتابه "سيارة ليكسيس وشجرة الزيتون: فهم العولمة" الصادر في العام 1999. القوسان الذهبيان هما شعار سلسلة ماكدونالدز الشهير والممكن تمييزه بسهولة في أي مكان حول العالم، والمرور عبر هذين القوسين يمنح ختم الدخول إلى منظومة العولمة والانتماء إلى نطاقها. بحسب نظرية فريدمان، أي دولة بلغت من التطور الاقتصادي حداً يسمح بتكون طبقة وسطى قادرة على دعم شبكة واسعة من مطاعم ماكدونالدز، ستصير دولة "ماكدونالدزية"، وبالتالي لن تعود راغبة في خوض حروب ضد دول أخرى.
في زمن صدور الكتاب، أي قبل ربع قرن، كانت تلك النظرية تعبيراً عن تفاؤل اليمين الأميركي بخصوص مفاعيل الرأسمالية المعولمة ومد جسور المصالح الاقتصادية المشتركة على نطاق عالمي عابر، بحيث يمكن تجاوز الأحقاد التاريخية والتنافس القومي ضيق الأفق. وفي ذلك، كان ذلك التفاؤل، نسخة مقلوبة وهزلية للافتراضات الماركسية حول دور الرأسمالية في تعميق الصراع الطبقي وإشعال الحروب الإمبريالية.
بأي حال، لم يكن فريدمان جاداً بشأن اتخاذ سلسلة ماكدونالدز معياراً يقاس به مدى الإندماج في منظومة العولمة وإمكانات السِّلم، وإن كان محقاً بالطبع في اعتبارها تدليلاً رمزياً على تمدد الإمبراطورية الأميركية وصور هيمنتها حول العالم بعد سقوط جدار برلين، وكذلك اعتبارها مقياساً لمستوى الإندماج في المنظومة العالمية ذات القطب الواحد. وبالطبع كان افتتاح أول فروع السلسلة الأميركية الشهيرة في ميدان بوشكين في موسكو العام 1990، ومن بعدها افتتاح فرع في ميدان السلام السماوي في بكين العام 1993، علامات على التحولات الجذرية الجارية في العالم، ومواد مثيرة صالحة للتوظيف في الحملة الدعائية المواكبة لإعلان الانتصار النهائي للرأسمالية ونهاية التاريخ.
في العام التالي لصدور الكتاب، شن حلف الناتو حملته الجوية على يوغسلافيا، على الرغم من أنها دولة ماكدونالدزية، بحسب فريدمان. وفي اليوم الأول للقصف الغربي، هدم السكان فرع ماكدونالدز في بلغراد. لم تصمد نظرية "الأقواس النظرية" أمام الوقائع التاريخية اللاحقة. وفي قرننا الحالي، وبعد بتمدد ساحات المنافسة أبعد من الميادين العامة للمدن، إلى العالم الافتراضي، ممثلة في "فايسبوك" وثوراته، وصولاً إلى "تيك توك" الصيني، لم يعد لشعار ماكدونالدز دلالات سياسية قاطعة كما كان الأمر في تسعينيات القرن الماضي. ومع هذا، ما زال ممكناً رسم بعض المقارنات على أرضية رمزية.
فكما أن الإمبراطورية الأميركية، المسماة بطرق أخرى العولمة، هي إمبراطورية بلا ممتلكات، أي تعمل عبر الهيمنة وشبكة معقدة ومتفاوتة من الترتيبات مع الحلفاء والأصدقاء والدولة التابعة، لضمان الوضع القائم والمصالح الأميركية في أقاليم العالم المختلفة، فإن سلسلة ماكدونالدز، مثل غيرها من علامات السلاسل المعولمة، تعمل بشكل مماثل. إذ لا تملك الشركة الأم فروعها المنتشرة حول العالم بالضرورة (هي أيضاً أمبراطورية بلا ممتلكات)، بل تمنح حقوق "امتياز" العلامة التجارية لشركاء محليين. وترافق تلك الشراكة، تنويعات محلية على منتجات الشركة في كل سوق محلية، كأن تقدم فروعها في الشرق الأوسط برغر الفلافل، وفروعها في الهند منتجات نباتية بتوابل الكاري.
تتطلب تلك الصيغة التعاقدية قدراً معتبراً من الثقة في المتعاقدين المحليين، وقدرتهم على تمثيل العلامة التجارية بشكل مستقل. فتعاقد الامتياز يعمل في الاتجاهين، حيث تدعم سمعة العلامة العالمية، النشاط المحلي، وبالقدر نفسه تؤثر قرارات الامتياز المحلي وممارساته في سمعة الشركة الأم حول العالم. وتُعدّ تلك الثقة شهادة على استحقاق السوق المحلي لأن يكون جزءاً من المنظومة المعولمة.
لم تملك شركة ماكدونالدز العالمية، الأدوات القانونية للتدخل سلباً أو إيجاباً، حين قامت شركة "ألونيال"-مالكة الامتياز في إسرائيل، بالإعلان عن تبرعها بوجبات مجانية لصالح جيش الدفاع عند انطلاق الحرب في غزة، وهي الخطوة التي حفزت موجة المقاطعة ضد الشركة في المنطقة العربية وخارجها أيضاً. والمفارقة أن الضرر المترتب على المقاطعة طاول أصحاب الامتياز المحليين في الدول العربية، ولم يؤثر بأي شكل في صاحب الامتياز في إسرائيل، وإن كان هذا كافياً لإلحاق الضرر بالسلسلة العالمية إجمالاً.
على الأرجح كان من باب المصادفة أن تعلن الشركة العالمية، شراء كافة فروعها في إسرائيل، أي القيام بإدارتها مباشرة والاستغناء عن الوكيل المحلي، في الأسبوع نفسه الذي شهد تحولاً جوهرياً في موقف الولايات المتحدة ولهجتها تجاه إسرائيل. فعلى خلفية القسوة الهمجية للحرب الإسرائيلية على غزة، تتهاوى مكانة إسرائيل كصاحب امتياز تمثيلي في المنطقة بالنيابة عن الإمبراطورية، بشكل استدعى قلبها في واشنطن للتدخل مباشرة لإدارة الحرب، ومحاولة تخفيف الضرر الذي لحق بهيمنة الإمبراطورية وسمعتها جراء الوحشية الإسرائيلية.
تُطمئن ماكدونالدز العالمية، مستهلكيها وموظفيها في إسرائيل، بأنها ملتزمة بالسوق في بلدهم، وهكذا تبقى إسرائيل دولة "ماكدونالدزية"، لكن بلا وكيل محلي مؤتمن، وتحت الإدارة المباشرة للشركة الأم.
المصدر: المدن