نُشرت أولاً، في الثامن من هذا الشهر، صورُ بشار الأسد وزوجته يشاركان في إفطار جماعي في "المدينة القديمة" في طرطوس. لم يضحك الأسد وزوجته ضحكاتهما المعتادة في مثل هذه الجولات فحسب، بل ظهرا ضاحكين أكثر من المعتاد، وفرحَيْن حقاً. من الإنصاف الإقرار لهما بصدقِ تعبيرهما عن مشاعرهما، وعدم التشكك فيها، أو النظر إلى تلك الضحكات بوصفها متعمَّدة على سبيل النكاية بضحايا الأسد ومعارضيه، إلى ما هنالك من التأويلات التي ترافق ظهوره عادة ثم تُطوى سريعاً.
يؤكّد ما ذهبنا إليه نَشرُ تسجيل يظهر فيه بشار وزوجته وسط جمهرة من الناس، فيما يبدو أنها احتفالات بعيد الفطر، ويشاركانهم الألعاب ومنها لعبة شدّ الحبل، حيث يقود هو فريقاً من الذكور، بينما تقود زوجته فريقاً منافساً من الإناث. أيضاً، في هذا التسجيل، بدت الفرحة على وجهيهما حقيقية، ولو كان كل ما عداها غير حقيقي. أي أن فرح الزوجين حقيقي في المناسبتين، ولو كان ظهورهما بين مَن يُفترض أنهم أناس عاديون مُعدَّاً ومصطنعاً ومكرراً، خاصة لجهة التركيز على تواضعهما مع أولئك الناس بوصفه مَكْرمة.
بدأت السلسلة الأخيرة من ظهور بشار على هذا النحو قبيل شهر رمضان الفائت، فانتشرت صور له مع ممثلي الدراما السورية، وشاعت أيضاً صورة منفصلة في لقاء خاص مع أحد الممثلين، حيث ارتدى بشار والممثل ثياباً موحَّدة، من دون أن يكون ثمة سبب أو مبرر لذلك! الحديث هنا عن مناسبات غير بروتوكولية، اصطُنعت من أجل هذه الصور أو تسجيلات الفيديو، وليس من هدف واضح لنشرها، ولا يجمع بينها سوى أن يرى السوريون صاحبها مرتاحاً خارج البروتوكول والرسميات. مع التنويه بأن واجباته البروتوكولية هي أيضاً ضمن الحد الأدنى من نوع اللقاء الرمضاني بمشايخ السلطة، أما الشؤون الرسمية الخارجية فهي شبه منعدمة ضمن ظروف إقليمية حافلة.
في هذه السلسلة لا نعثر على مؤشّر جامع لها سوى أن صاحبها مرتاح حقاً، وبمزاج يدفعه لفعل ذلك بعيداً عن ضغوط من أي نوع تُملي عليه توجيه رسالة هنا أو هناك. هو مثلاً عندما يذهب إلى إفطار رمضاني في طرطوس لا يفكّر في أثر ذلك على الذين عانوا رمضاناً غير مسبوق لجهة التدهور المعيشي، ولا يفكر أيضاً في التودد إلى جمهور الصائمين عبر دغدغة مشاعرهم الدينية، لأن هذا الجمهور لا يمتلك حالياً ترف التفكير بعواطفه.
البهجة الحقيقية التي تشي بها التعابير الجسدية لبشار تقول أنه غير مهموم بحدث شغل العالم في الأيام الأخيرة، وهو قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق. في تبرير البهجة الناجمة عن عدم المبالاة، قد يُقال أن القنصلية أرض إيرانية، وهو غير مطالب حتى بردّ فعل من قبيل الاحتفاظ بحق الرد في المستقبل غير المنظور وغير المقبل. وقد يُقال أن القنصلية ليست وحدها الأرض الإيرانية في سوريا، فنظام الملالي وحرسه الثوري يحتلان العديد من المواقع الحساسة. رغم ذلك، أي رغم أنه غير معني بالاشتباك الإسرائيلي-الإيراني على أراضٍ سورية، يبقى مشروعاً الافتراضُ بأن يتسبب له ولو بقلق بسيط. لكن مشروعية الافتراض منطقية، لا واقعية، بوجود وجه طافح بالبهجة يدحضه.
الوجه الباسم نفسه لا يؤرّقه أن طرفاً لبنانياً اختطف مسؤولاً من خصومه، واستخدم الأراضي السورية لتصفيته. والأهم "من وجهة نظر محلية" انعكاس ذلك على السوريين في لبنان. ومن المعلوم أن السوريين المرشّحين لتلقّي الغضب أو الانتقام ليسوا جميعاً من معارضي الأسد كي يشمت بهم، فهناك نسبة معتبرة ممن يُحسبون على مواليه، وهم مضطرون للعمل في لبنان لإعالة أسرهم في سوريا، أي أنهم يساهمون في تحسين الأوضاع المعيشية تحت سلطته ويستحقون منه الاهتمام الذي يوليه المسؤولون عادة لرعايا بلاده في الخارج.
سابقاً كان إهمال شؤون السوريين يُغطَّى عليه بشعارات معركة التحرير، والتصدي للمؤامرات الدولية التي لا يتوقف الغرب وإسرائيل عن حياكتها. انشراح الأسد مؤخراً يوحي بواحد من أمرين: فإما أنه مقتنع بكونه قد انتصر على المؤامرة الكونية، أو أنه تحرر أخيراً من عبء هذه التمثيلية السمجة فلم يعد مضطراً للظهور على غير طبيعته استكمالاً لها. بناء على الانسحاب من التمثيلية، لا يجد الأسد نفسه مطالباً بإبداء شيء من الأسى على الضحايا الفلسطينيين في الجوار، ولو مجاملة لزملاء له في الحلف مواظبين على أداء دورهم.
اللامبالاة بما يجري في المنطقة ليست رسالة إلى إسرائيل في المقام الأول، فهي تعبّر حقاً عن مكنونات الأسد. وهو لا يدير ظهره إلى الموضوع الفلسطيني "والجولان السوري" من موقع الاهتمام بالداخل كما يتمنى المنادون بالكفّ عن المتاجرة بالموضوع الفلسطيني. إنه يفعل فقط من موقع الاهتمام بكرسيه، ولعله بهذا يقدّم مثالاً لا ينفرد به على تدنّي الحساسية تجاه معاناة شعب آخر. ولحسن حظه تتكفّل التوازنات الروسية-الإيرانية بتبريد الحدود التي لا يسيطر عليها من جهة الجولان، فالميليشيات الإيرانية هناك تردعها نقاط المراقبة الروسية التي تزداد يوماً بعد يوم.
علائم الحبور على وجه الأسد تشير إلى أنه يعيش حقاً أسعد أيامه، ويلهو محتفلاً بذلك، ويلتقي "رعاياه" هنا أو هناك بهذا المزاج المنشرح لا أكثر ولا أقل. هو احتفال مستَحق لمن يجد نفسه قد نجا من الضغوط بعدما نجا من السقوط، أي لمن ارتاح مؤخراً من ثقل الأصدقاء بعدما أزالوا عن كاهله خطر الخصوم.
قبل سنتين ونيف تلقى بشار هدية ثمينة بالغزو الروسي لأوكرانيا، لأنه جعل بوتين ينشغل عنه بعدما كان بين الحين والآخر يتعمّد توجيه الاتهامات له، مباشرةً أو عبر مقرّبين من الكرملين. بتلك الإهانات كان بوتين يوجّه رسالة لواشنطن مفادها أنه يمسك برقبة الحل في سوريا، ولا يُستبعد أن يكون جانب من الرسالة موجّهاً إلى طهران. الأخيرة بدورها وجدت فرصتها السورية بانشغال بوتين بهمومه الأوكرانية، إلى أن أتت الحرب على غزة لتنشغل عن الأسد بعد انهماك إيراني في السيطرة على الأسد سبقَ الحرب.
حالياً غير مطلوب من الأسد أي شيء، فكلّ من الحليفين منشغل عنه. والشأن السوري برمّته ليس أولوية للاعبين المؤثرين، ما يعني استتباب الوضع حتى إشعار آخر. في غضون العواصف الدولية والإقليمية، تخطى الأسد المخاوف مما قد يتسبب به الانهيار الاقتصادي من نقمة وتعبير عنها قد يصعب ضبطهما. فالاحتجاجات اقتصرت على السويداء، وكل يوم إضافي يؤكد على أنها لن تمتد إلى بقية المدن. لم يعد هناك حتى تذمّر خجول للمطالبة بإيقاف التدهور الحاصل، فالناقمون الصامتون يائسون بالمطلق من السلطة، ولا أمل يدفعهم للثورة عليها.
بعبارة أخرى، يتمتع الأسد الآن بمزايا البقاء في السلطة بلا مقابل، وبسبب اليأس منه فهو غير مطالَب داخلياً بأي شيء، بينما الخارج منشغل عنه. ولعل ظهوره غير البروتوكولي مؤخراً شبيه جداً بما عرفه السوريون عنه أيام كان يُعدّ لوراثة الحكم، الشبه الذي يحيل إلى التمتع بمزايا السلطة من دون تحمّل مسؤولياتها. هي إجازة يلهو فيها كأنه ابن طاغية، لا الطاغية بلحمه وعظمه.