تقدّم ملف اللاجئين السوريين في لبنان على ما عداه من الملفات. ويكاد يتقّدم على تطورات الوضع في الجنوب والجبهة المفتوحة هناك منذ أكثر من 7 أشهر. عوامل عديدة اجتمعت لتفجّر الأزمة المتصلة بموضوع اللاجئين. وهو بلا شك ملف يحتاج إلى معالجة جدية وموضوعية، بعيداً عن كل عمليات التجييش.
منذ اختطاف وقتل مسؤول القوات اللبنانية في منطقة جبيل باسكال سليمان، تفاقمت الأزمة، والتي تحتاج إلى علاج علمي يبدأ في إحصاء السوريين الموجودين في لبنان، فمن بينهم عمّال حائزون على إقامات عمل. ومن بينهم أيضاً مستثمرون، بالإضافة إلى اللاجئين.
عوامل أساسية
جملة عوامل دفعت إلى التركيز على هذا الملف. العامل الأول، حصول لبنان على مليار يورو من الاتحاد الأوروبي، انقسمت الآراء حولها، بين من وصفها بأنها رشوة، ومن اعتبر أنه لا حلّ لأزمة اللجوء في الأفق المنظور. وبالتالي، لا بد للبنان من قبول المبلغ. وتوالت الاتهامات بين من يعتبر أن الأوروبيين يريدون إبقاء اللاجئين في لبنان وتوطينهم مقابل تهجير اللبنانيين، وهذا رأي يتجه نحو الكثير من المغالاة، وبين من يعتبر بكل بساطة أن الأوروبيين لا يريدون لهم التوجه إلى أوروبا، ولكن من دون توطينهم في لبنان.
العامل الثاني، هو إعلاء الصوت والصرخات على مشارف مؤتمر بروكسل. أما العامل الثالث، فله ارتباط بتطورات سياسية، بين من ينظر إلى المزيد من المساعي العربية لترتيب العلاقات مع دمشق، ومن يشير إلى أن كل الدول ستتعاطى لاحقاً مع النظام السوري، الذي أعلن رئيسه بشكل واضح عن وجود قنوات اتصال مع الأميركيين، بالإضافة إلى بروز آراء أوروبية، ولا سيما في أوروبا الشرقية، تريد التنسيق الأمني أو السياسي مع دمشق.
أمام هذه الوقائع، يعتبر بعض اللبنانيين أنه لا يمكن الوقوف جانباً، ولا بد من إسداء خدمات لدمشق، من قبيل الضغط على بعض الدول الأوروبية في ملف اللاجئين، لدفعها إلى التواصل والتنسيق مع سوريا. وهذا ما قاله صراحة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه برّي في لقاءات دولية وديبلوماسية.
الانتماء السياسي للاجئين
عملياً، أصبح ملف اللاجئين السوريين مرتبطاً بالسياسة الدولية، ولا قدرة لا للبنان ولا لسوريا على معالجته. ولا شك أن هذا الملف يشكل ضغطاً وعبئاً كبيراً على الواقع اللبناني بجوانبه المختلفة، اجتماعياً، اقتصادياً ومالياً. فكل الأرقام الدقيقة تخالف كل ما تعلنه الحملات المركزة، لا سيما أن غالبية اليد العاملة في لبنان هي يد عاملة سورية. وهذا في كل الأحوال يحتاج لمدار بحث أوسع وبشكل علمي لا مجال له هنا.
إحدى المشكلات الأساسية مع اللاجئين السوريين هي بتصويرهم من مذهب معين. ما سيشكل تحدياً لأبناء المذاهب أو الطوائف الأخرى، مع إغفال أعداد المواطنين السوريين الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسية السورية في السنوات الفائتة، والتي أجرت استعراضاً مفضوحاً على طول الطرقات اللبنانية وصولاً إلى مقر السفارة. وربما لهذا المشهد أن يتكرر مع الدعوة إلى الانتخابات البلدية في الأيام المقبلة.
هذا يفتح المجال أمام نقاش حول "الانتماء السياسي" لهؤلاء المواطنين السوريين، إن كانوا لاجئين أم غير لاجئين، مع الإشارة إلى وجود أعداد كبيرة منهم من المؤيدين للنظام في دمشق.
الفوضى المتعمدة
منذ اليوم الآول لملف اللجوء، تخلّت الحكومة اللبنانية عن صلاحياتها، ودخل لبنان في موجة فوضى متعمدة. إذ أن كل اللبنانيين تعاطوا مع الملف انطلاقاً من مواقفهم وآرائهم وتعلّقهم بما سيكون عليه ميزان القوى في سوريا. فالمؤيدون للثورة اعتبروا أنه لا بد من استضافة اللاجئين الذين يفترض أن يعودوا بعد سقوط النظام. أما المؤيدون للنظام، وبعضهم شارك في الحرب السورية وفي عمليات التهجير، فكانوا ينظرون إلى ما يجري باعتباره يحدث تغييراً ديمغرافياً في سوريا، ما يعزز منطق "سوريا المفيدة" ويضعف الأكثرية السنية. أما انتقالهم إلى لبنان فكان بنظر البعض أنهم سيكونون ضعفاء وغير قادرين على التأثير في ميزان القوى، بخلاف لو بقوا في سوريا، كما أنه يمكن استخدامهم في أي لحظة كعنصر تهديد وجودي للطوائف الأخرى، ولا سيما المسيحيين.
في المقابل، هناك سؤال أساسي يطرح أيضاً حول موقف القوى الدولية من هذا التغيير الديمغرافي، والموافقة نسبياً على بقاء اللاجئين في لبنان، وإذا ما سيكون هدفه جعل كل القوى الاجتماعية أو السياسية أو الطائفية تعيش تحت ضغط هذا الثقل، أو كعنصر من التوتر المستمر.
مشكلة الشعبين
بالعودة إلى وجهتي النظر المتناقضتين المعارضة للنظام والمؤيدة له، فما سقط هو سوريا ولبنان معاً. وهو ما يتجلى في الصراع المستمر حول ملف اللاجئين سواء داخل سوريا أم داخل لبنان، مع الإشارة إلى أن مهجري حمص وريفها، دمشق وريفها، والذين اتجهوا إلى إدلب لم يتمكنوا من العودة حتى الآن. وبالتالي، عودة الذين خرجوا من سوريا ستكون أصعب. وهناك تجارب كثيرة مع دمشق تشير إلى الصعوبة في كيفية مقاربة هذا الملف. وأبرز دليل ما سعت إليه الدول العربية منذ سنة وحتى الآن، ولم يتحقق فيه أي تقدم.
خطورة ما يجري، أن هناك محاولة لوضع اللبنانيين في مواجهة السوريين، بالاستناد إلى بعض الحملات التي تتخذ طابعاً سياسياً وأيديولوجياً. هناك تفاقم لهذه الأزمة بلا شك، ولكنه يحتاج إلى مقاربة موضوعية، بعيداً عن إحياء أي صيغة طائفية أو مذهبية لصناعة عصبية متجددة، تشكل رداً على عصبيات أخرى شيعية أو سنية. هناك من يريد حصر مشكلة اللاجئين في البيئة المسيحية، لتحقيق أهداف سياسية باستخدام ملف اللاجئين في سياق بناء رأي عام اجتماعي موحد في مواجهة الطرف الآخر سياسياً، وانطلاقاً من مبدأ أن حزب الله يطبق فيدراليته ولا بد للآخرين من تطبيق فيدراليتهم، التي قد يشكل ملف اللجوء مدخلاً لها تحت عنوان "التهديد الوجودي".
لا يمكن تصوير مشكلة اللاجئين السوريين بأنها مشكلة للمسيحيين، إنما هي مشكلة للسوريين واللبنانيين بكل أطيافهم معاً، مع التشديد على أن إعادة اللاجئين إلى سوريا وإلى أراضيهم ومناطقهم بالتحديد، هي مصلحة سورية، ومن مصلحتهم قبل أن تكون مصلحة لبنانية. وذلك في سبيل إعادة المجتمع السوري إلى أرضه وبيئته، وعدم البقاء في حالة شتات، ومنع أي تكريس لعمليات التغيير الديمغرافي التي يراد لها أن تتكرس في سوريا. وهذا لا بد له أن يرتبط بمرحلتين، الأولى إحصاء دقيق للاجئين السوريين والمناطق التي تهجروا منها، ودراسة إمكانية عودتهم أو إنشاء مناطق آمنة يمكنهم العودة إليها على الحدود بين البلدين، مع ضمانات أمنية دولية. والمرحلة الثانية حتماً هي الوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية. وهذا مساره طويل وفق الوقائع.
*المصدر: المدن