ظهر مفهوم "كره الذات" بشكل واضح في الأدب والنظريات النفسية والاجتماعية خلال القرن العشرين. ومع ذلك، يمكن تتبع جذور هذا المفهوم التي ترجع إلى فترات سابقة من التاريخ البشري عبر التأملات الفلسفية والأدبية حول الهوية والذات. ولهذا المفهوم جوانب متعددة نفسية، اجتماعية، ثقافية، تاريخية وسياسية. غالبًا ما يرتبط ظهوره او استعماله بتجارب التهميش وصراع الهوية التي يعاني منها أفراد أو جماعات. ولقد كانت نظرية سيغموند فرويد حول "الأنا الأعلى والأنا الأدنى" مؤسّسة في هذا الحقل. فهذه النظرية التي تتناول الأبعاد النفسية للشعور بالذنب وبالعار، أوضحت الطرق التي يمكن اتباعها لكي تتطور نحو كره الذات. وتناول سواه من المفكرين والمحللين النفسيين في أزمنة متقاربة، مفهوم احترام الذات وكيف يمكن أن يؤدي تدهور الشعور به وانعدام الأدوات المساعدة فيه إلى كره الذات. وتكتسب عملية تحقيق الذات أهمية قصوى بحيث يؤدي فشلها إلى مشاعر سلبية تجاه الذات.
ويلعب العامل الخارجي، وخصوصًا الاستعمار، حسب وصف فرانز فانون في كتابه المؤسّس "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، دورًا رئيسًا في تشويه الهوية الثقافية للأفراد ويُغذّي شعورهم بالنقص والدونية. كما أن القمع والتمييز العنصري يؤثران بشدة بالنفس البشرية التي تتعرض لانتهاكهما، فإن لم يؤديا إلى ثورة الضحايا عليهما للتخلّص منهما، وهذا ما يقع في أغلب الأحيان، فيمكن أن يدفعا البعض من الضحايا للشعور بالعار من هوياتهم الأصلية. كما أن دراسة وتحليل مسارات الهجرة واللجوء وما يرافقها من معاناة ذاتية أو موضوعية متعلقة بمسألة الاستيعاب في البلد المضيف، تُظهر كيف يمكن أن تؤدي أحيانًا الضغوط للتكيّف في المجتمعات الجديدة إلى تشجيع الشعور بكره الذات. وبالتالي، تؤدي الانقطاعات الثقافية والهوياتية إلى مشاعر كره الذات، خاصة عندما يشعر الأفراد بالانفصال عن جذورهم والتهميش في المجتمعات الجديدة. وينجم عن هذا كله، شعور مهيمن لدى المهاجرين بوجود صراع محتدم بين ثقافتهم الأصلية والثقافة السائدة، مما يمكن أن يؤدي ببعضهم، إما للتقوقع والراديكالية القومية أو الدينية، أو إلى السعي إلى رفض هويتهم الأصلية وتبني الهوية الجديدة بشكل كامل ونسخي على "عجرها وبجرها".
وفي الفترة الممتدة منذ بداية الربيع العربي، والذي جابهته ثورات مضادة أدت إلى هزائم متلاحقة لأحلام كثير من ساكني الدول العربية بالتخلص من الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي دفعت بعدد كبير منهم إلى بلدان اللجوء، فقد نمت بين أفراد منهم أيضًا ظاهرة كره الذات والتي سبق ان تناولتها في عدد من المناسبات لم يكن آخرها مقالي هنا عن الشاعر السوري عمر سليمان. ويبدو أن "النجاح" الإعلامي، وبالتالي المادي، الذي حقّقه هذا الشاعر من خلال تجسيده الناجح لمن يتقمّص "كره الذات" ليجد له ضوءًا تحت غيوم باريس، قد شجّع عديدًا ممن ضاقت بهم الحال المادية، او الأخلاقية، او الثقافية، أو كلّها مجتمعة، للخوض في وحل "كره الذات" عبر وسائل عدّة. ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي ستجري يوم 9 من الشهر الحالي، خرجت أصوات سورية "لاجئة" تُسيّرها أحزابٌ يمينية متطرفة وتتقن الكلام بلغة موليير، لكي تفتخر بتصويتها المقبل، وهي الحاصلة على الجنسية الفرنسية مؤخرًا، لمرشحي التجمع الوطني المتطرف كما لمرشحين أكثر تطرفًا من التجمع. مجموعات أشبه بالفاشية السياسية، ينحصر خطابها على الترهيب من المهاجرين والمسلمين والسود. كما في موقفها الدولية، فهي قريبة من السياسة الروسية العدائية. وعلى الرغم من أن أصول اليمين المتطرف الأيديولوجية زاخرة بمعاداة السامية وبالإعجاب بالخطاب النازي، فهو يؤيد بشكل كامل آلة القتل الإسرائيلية التي تُشبع في ذوات أتباعه الرغبة في قتل العرب والمسلمين وتهجيرهم، وهو ما لا يقدرون عليه في الوقت الحالي، وبالتالي، فهم يفرحون لنجاح إسرائيل على القيام به.
تابعت فتاتين سوريتين على وسائل التواصل، تفتخر إحداهن بالصور التي تجمعها مع الرئيس الشاب لحزب التجمع الوطني، جوردان بارديللا. وتخاطب الثانية بفرنسية متمكنة جمهور الفرنسيين محذّرة إياهم من العرب ومن المسلمين، وبالتالي، تدعوهم لعدم التصويت لحزب فرنسا الأبية اليساري الذي يتبنى قضايا المهاجرين او من هم من أصول مهاجرة في برنامجه الانتخابي. وعندما يهاجم بعض المعلقين هذه المواقف منوّها للفتاة الأولى بفداحة ما تقترفه بحق أبناء جلدتها من خلال دعمها للخطاب العنصري، لا تتراجع الشابة، بل تتقدّم أكثر إلى إبراز حالة كره الذات التي تكتنفها. أما الشابة الثانية، فهي تطوّر من خطابها الذي يبدو انه مستند على درجة علمية أكثر تطورًا من الأولى، لتخوض في حديث عن الأعمال الإرهابية التي عرفتها باريس سنة 2015، محذّرة من تكرارها إن ارتفع عدد المسلمين في المجتمع الفرنسي.
نموذجان ليس إلا في بحرٍ تعجّ أمواجه بظواهر تستحق التوقف عندها من قبل المحللين النفسيين. وستتضاعف الحاجة اليمينية المتطرفة لاستعمال خطابهما مع اقتراب يوم الاقتراع. ومن المحتمل، بل من المؤكد، بأن الإعلام التجاري سيضعهما على رأس قائمة مدعويه ليجعل منهما أدوات "حضارية" تسوّغ لمعلقيه الاستمرار في الخوض في وحول العنصرية المستترة أحيانًا والمفضوحة في أحيان أخرى.
*المصدر: المدن