مساعي "خفض التصعيد": فرصة على قاب قوسين أو أدنى؟

توحي التطورات الأخيرة وما حملته من تسريبات تشي بإمكان التوصل الى اتفاق على وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ان هذا الاستحقاق بات على قاب قوسين أو ادنى من ان يتحقق إن اكتملت ظروفه وانعكس كما في التجارب السابقة على جنوب لبنان. وهو امر غير ثابت حتى اللحظة إن تعمّق المراقبون في لوائح الشروط والشروط المضادة. وعليه طُرحت الاسئلة عن السيناريوهات التي تحاكي «اليوم التالي» في غزة والجنوب، وهذه عينة منها.

على هذه الخلفيات تعدّدت النظريات التي تتحدث عن مستقبل التطورات العسكرية والامنية وسط عدد من المصاعب التي تعوق إمكان اجراء قراءة ثابتة لنتائج المساعي المبذولة لإجرائها. فالمتغيرات سريعة وربما جاءت في خطوات دراماتيكية تتراجع معها كل التقديرات بإمكان بلوغ مرحلة الانفراج بدلا من الإنفجار، والتجارب السابقة خير دليل، ما يفرض اجراء قراءة منفصلة للمخارج المطروحة لما يجري في قطاع غزة بمعزل عن تلك التي تتحكم بالوضع في جنوب لبنان وهو أمر يلقي بظلال وافرة تمنع اي سيناريو «يحاكي اليوم» التالي في كلتا المنطقتين.

وتعتقد مصادر ديبلوماسية وسياسية مطلعة، أنه لا يمكن بناء الاستراتيجيات الايجابية الطويلة المدى، قياسا على ما يمكن ان تنتجه تصرفات وخطوات مرحلية وجزئية في خضم ما تميّزت به الحرب من تحولات كبرى غيّرت معالم المنطقة ووضعتها على شفير مستقبل غامض لا يمتلك الباحث عن الحلول اي صورة متكاملة وثابتة له. فما خلّفته الاحداث المتتالية بما حملته من مفاجآت زاد من غموض ما هو متوقع، ورفع من منسوب القلق تجاه ما يمكن تحقيقه من حلول ومخارج بعدما تمسكت الأطراف كافة بخططها الاستراتيجية البعيدة المدى ومطالبها التعجيزية التي يستحيل تنفيذ الكثير منها، من دون ان يعبّر اي منها عن النية بإعادة النظر فيها ليكون البحث عن القواسم المشتركة ممكناً.

 

وانطلاقاً من هذه التعقيدات التي حالت دون اي اتفاق لتجنّب مزيد من التصعيد العسكري على الجبهات كافة، فقد تحدثت التقارير الديبلوماسية الواردة من أكثر من عاصمة معنية عن أنّ التوجّه اقترب اكثر من اي وقت مضى نحو امكان تحقيق الخطوة الاولى المتصلة بوقف للنار، والتي تمهّد للخطوات التنفيذية الاخرى المؤدية الى نزع فتائل الحرب والبدء بتطبيق المسارات السياسية والديبلوماسية التي توفر الضمان المطلوب لتثبيت وقف إطلاق النار وديمومته بما يتيح السعي الى تنفيذ الخطوات السياسية المطلوبة.

بالتأكيد، فإنّ هذه الرؤية تفرض وجود معطيات لم تتوافر بعد، ومردّ ذلك الى عجز الأفرقاء المعنيين عن ابتداع الحلول القابلة للتنفيذ في مرحلة اشتد فيه النزاع بين القيادات العسكرية والديبلوماسية والسياسية، بطريقة نبذ فيها أصحاب الرؤوس الحامية مختلف الطروحات التي حملتها المبادرات الخارجية، من تلك التي أطلقتها مجموعات عربية في مؤتمر القاهرة ومن بعده في القمة العربية ـ الإسلامية الطارئة في الرياض، الى الاوروبية منها والفرنسية والبريطانية خصوصاً. وبقيت الأمور تتعقّد حتى بلغت موجات الرفض المساعي الاميركية ايضا. فتساقطت الواحدة تلو الاخرى على عتبات المجنزرات الاسرائيلية عند ابواب رفح، بعدما غيّرت معالم القطاع، ومعها مسلسل المجازر التي ارتكبتها القنابل الثقيلة للطائرات الحربية بما حصدته من ضحايا في مجمعات سكنية وطبية وتربوية ومراكز إيواء أممية للاجئين، ولم تنفع المرافعات أمام محكمة العدل الدولية ولا المحكمة الجنائية في لجم اي منها.

 

وقياساً على هذه المؤشرات، تحولت عودة الوفد الاسرائيلي الى مفاوضات قطر بعد ما سمّي بـ «الأجوبة الايجابية» لحركة حماس، مناسبة للحديث عن احتمال التوصل الى اتفاق يستند الى الاقتراحات الاميركية، بعدما شجّع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل أيام رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو للإقدام على مثل هذه الخطوة، وتوّجها الاتصال الهاتفي بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن على وقع التحضيرات التي اجراها الموفدون الآخرون وما عمل لأجله وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان أنتوني بلينكن ولويد اوستن مع رؤساء أجهزة المخابرات الاسرائيلية ووزير الدفاع يوآف غالانت الذي تسلّم جزءاً من الاسلحة الاميركية التي جمّد تسليمها الى بلاده، عدا تلك الثقيلة التي تزن ما فوق الـ 800 او 900 رطل، ربطاً بما التزمت به اسرائيل في معارك رفح من استخدام محدود للقوة والتزام مبدئي بتأجيل الخطط العسكرية الخاصة بلبنان.

ومن هذه النقطة بالذات، تتوسع المصادر الديبلوماسية لتقول انّ الجانب الاميركي ضَمَن تريثاً اسرائيلياً في الإقدام على اي عملية عسكرية واسعة النطاق في لبنان كما قالت التهديدات المسبقة في شأنها وخارج ما هو معتمد في ما يسمّى «قواعد الاشتباك» المعمول بها في الفترة الاخيرة. ولكنها استبدلتها باستئناف العمليات الامنية التي تستهدف القادة العسكريين في «حزب الله» ممن يستلزم اغتيالهم موافقة مسبقة من القيادة الاسرائيلية السياسية. فهي خطوة واجبة لأنّ تنفيذها يجب ان يتزامن مع ضرورة احتساب شكل ردات فعل قيادة الحزب السياسية والعسكرية المحتملة قبل تنفيذها بطريقة تضمن عدم خروجها عن المألوف وبما يهدّد «قواعد الاشتباك» المعتمدة. وعدم التسبب بتوسيع نطاق الحرب كما بالنسبة الى ما تفرضه من تدابير احترازية استثنائية.

 

وتضيف المصادر العليمة، انّ ما هو منتظر بات رهن الوصول الى مرحلة يصل فيها الأمر بقرار اتُخذ لاغتيال قادة ميدانيين من الصف الثاني، وربما كانوا من اعضاء المجلس الجهادي في الحزب، وهي عمليات تختلف في قواعد تنفيذها عن تلك التي تستهدف المواقع العسكرية وقيادات الصفين الثالث والرابع في هيكلية الحزب العسكرية، وهو ما ترجمته العملية الاخيرة التي اغتيل فيها قائد القطاع الغربي في الجنوب في قلب مدينة صور، وهي منطقة تُعتبر خارج بقعة الاشتباك، ولذلك ادخل الحزب حيفا ومحيطها ومواقع عسكرية قيادية حساسة في الجولان المحتل الى نطاق القواعد المستهدفة عسكرياً للمرّة الاولى في مرحلة اقتربت فيها الحرب من دخول شهرها العاشر بلا هوادة ولا فترات محدودة من الهدوء سوى تلك التي رافقت الهدن الانسانية الخمس في غزة.

عند هذه المؤشرات، تنصح المصادر الديبلوماسية المتابعة بضرورة مراقبة التطورات من الآن وخلال الايام القليلة المقبلة ساعة بساعة، في انتظار التثبت من قدرة مفاوضات الدوحة على انتاج تفاهم بين حماس واسرائيل يؤشر إلى استئناف الحراك الديبلوماسي الاميركي في المنطقة. فوزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان على استعداد للعودة الى المنطقة متى وُضع حجر الأساس لأي تفاهم متقدّم، وسيكون الموفد الرئاسي عاموس هوكشتاين جاهزاً ليكون خلفهما في التحرك بين تل أبيب وبيروت. ولكن اذا لم تحصل اي خطوة متقدّمة سيبقى المسؤولون الاميركيون في بلادهم يراقبون من بُعد مجرى التفاهمات، ليتقاسموا أعباء المواجهتين الخارجية في الشرق الاوسط والداخلية المتصلة بالانتخابات الرئاسية، وما تفرضه لجهة التوصل إلى إنجاز يمكن البناء عليه في المواجهة المفتوحة مع الرئيس السابق دونالد ترامب في الداخل، ومع نتنياهو في المنطقة، مع التحسب الدائم لصعوبة ترميم العلاقات مع تل أبيب، وهو أمر مستحيل في الفترة الفاصلة عن القرارات الكبرى المتصلة بالاستحقاق الرئاسي لجهة تأكيد ترشيح بايدن ومدى قدرته على ضمان بقائه في البيت الابيض من عدمه.

*المصدر: الجمهورية