بريطانيا وغزة: السياسة الخارجية مناورة داخلية

يتغير وجه السياسة الخارجية البريطانية، بعد الانتخابات العامة الأخيرة والتي أزاح فيها حزب العمال، حزب المحافظين، بعد أربعة عشرة عاماً طويلة في الحكم. وزير الخارجية الجديد، ديفيد لامي، المحامي الأسود من أصول مهاجرة من أبناء المستعمرات والمتحدر من عائلة غويانية، يحل محل سير ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء السابق سليل الأرستقراطية الإنكليزية والذي استدعاه حزبه في الشهور الأخيرة لتولي منصب وزارة الخارجية، في محاولة أخيرة يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعة المحافظين.

بعد أيام قليلة في منصبه، أبدى لامي تحولاً في خطاب الخارجية البريطانية بشأن غزة، مقارنة بموقف حكومة المحافظين الداعم بشراسة للحرب الدائرة في القطاع. بالإضافة إلى التصريحات الأكثر تصميماً على إنهاء الحرب، وإعادة تمويل وكالة الأونروا، أشار لامي بأنه في انتظار المشورة القانونية بشأن تصدير السلاح إلى إسرائيل، وألمح إلى إمكانية تقييد شحنات السلاح بحيث تكون محصورة في أغراض الدفاع، لا الهجوم. ومع أن التفريق بين الغرضين من الصعب ضبطه عملياً، مما يعني استمرار توريد شحنات السلاح أو معظمها على الأقل، فإن الخطوة البريطانية لو تحققت سيكون لها وزن رمزي. ولا يبتعد ذلك الإعلان عن الموقف الأميركي الذي عطل شحن القنابل ذات الأوزان الكبيرة، بل لعله يأتي متأخراً خطوتين وأكثر عن واشنطن.

كانت حكومة المحافظين قد امتنعت عن إعلان طبيعة المشورة القانونية التي تلقتها من مستشاريها بخصوص الحرب في غزة، وقاومت حكومة ريشي سوناك الدعوات الكثيرة للكشف عن محتوى تلك المشورة. أما لامي فقد أعلن أن حكومته ليس لديها إطلاع على المشورات القانونية التي تلقتها حكومات سابقة، لكنه أكد، في الوقت نفسه، عزمه الإعلان عن محتوى النصائح القانونية التي قد تتسلمها وزرارته بشأن الحرب الإسرائيلية في غزة.

وفي المضمار القانوني الدولي، سعت حكومة المحافظين إلى عرقلة إدانة الخروق الإسرائيلية في المحاكم الدولية. ففي تموز/يوليو الماضي، قدمت المملكة المتحدة رأياً قانونياً من 43 صفحة كجزء من مرحلة تقصي الحقائق في محكمة العدل الدولية، وذلك قبل إصدار المحكمة الرأي الاستشاري بشأن العواقب القانونية لـ"الاحتلال والاستيطان والضم" للأراضي الفلسطينية. وعارضت الوثيقة البريطانية نظر القضية من الأساس أمام المحكمة. ولاحقاً قامت بأمر مشابه أمام المحكمة الجنائية الدولية، حيث قدمت طعناً على قرار المحكمة المحتمل بإصدار مذكرات توقيف ضد مسؤولين إسرائيليين، على رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه. ومع أن الرأي الأرجح هو أن حجج الطعن البريطاني أمام المحكمة الجنائية الدولية، هشة، ولن تؤثر في مخرجات القضية، إلا أن من شأنها تعطيل سير مداولاتها وقد تؤجل استصدار مذكرات التوقيف إلى ما بعد نهاية الحرب.

مؤخراً، سحبت الحكومة العمالية، الطعن البريطاني لدى المحكمة الجنائية. وقبل يومين صرح رئيس الوزراء، كير ستارمر، بضرورة اتخاذ إجراءات "فورية" لوقف إطلاق النار. بلا شك، ثمة تغير في بوصلة السياسة الخارجية البريطانية تجاه غزة، لكنها محدودة الأثر ومتأخرة جداً. وبأي حال لا تملك لندن أوراقاً للضغط على الإسرائيليين، ولا تتجاوز السياسة الخارجية البريطانية في العموم كونها ظلاً للسياسات الأميركية، مع مساحة مناورة محدودة. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الخطوات البريطانية الأخيرة على أنها متوافقة مع رغبة الإدارة الأميركية في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن.

دوافع التحول البريطاني وأغراضه موجهة للداخل بالأساس. فبالرغم من الفوز الكاسح لحزب العمال في الانتخابات الأخيرة، حصل مرشحو الحزب مجتمعين على حصة أعلى قليلاً من ثلث أصوات الناخبين، وكان فوزهم ممكناً فقط بحكم التصويت العقابي ضد المحافظين. صحيح أن العمال خسروا عدداً محدوداً من المقاعد لصالح مرشحين مستقلين، على خلفية موقف الحزب المائع من الحرب في غزة، لكن الخسارة الأكبر جاءت من تمرد قواعده الأكثر إخلاصاً، أي فئات المسلمين والأقليات العرقية ومصوّتيه الأكثر راديكالية، وتصويت هؤلاء للخضر وأحزاب أخرى أصغر. يتحسب العمال للانتخابات المقبلة، بعد أن ينتهي شهر العسل القصير مع الناخبين. لذا، وبشكل براغماتي، يقدم بعض الترضيات الرمزية خارجياً لاستعادة بعض من شعبيته، ترضيات تبدو في مجملها تحويلاً للبوصلة في الاتجاه نفسه.

*المصدر: المدن