إيلون ماسك ضد الحكومات

بعد موجة أعمال الشغب العنصرية في إنكلترا وإيرلندا الشمالية، والتلاسن بين رئيس الوزراء البريطاني، كيم ستارمر، وإيلون ماسك، بسبب تغريدات للأخير في منصة "أكس" التي يمتلكها ويروج فيها لنظريات المؤامرة وخطاب كراهية المهاجرين، وبعد دعوات متتالية في المملكة المتحدة إلى استصدار مذكرة لتوقيف ماسك بتهم التحريض على العنف... بادر عدد من أعضاء البرلمان البريطاني إلى مغادرة "أكس" وأغلاق حساباتهم فيها من باب الاحتجاج.

والواقعة هذه ليست منفردة. فقبل ذلك بأيام، ومع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في فنزويلا، شن ماسك حملة عنيفة على الرئيس مادورو المُعاد انتخابه لفترة رئاسة ثالثة. وكان مادورو، الذي تدعي المعارضة تزويره الانتخابات، قد اتهم الولايات المتحدة وماسك شخصياً بإشعال الاحتجاجات ضد نتائج التصويت. وعلّقت الحكومة الفنزويلية موقع "أكس" لمدة عشرة أيام، وردّ ماسك بتغريدة متهكمة يتوعد فيها بإحراق شارب الرئيس الفنزويلي باستخدام أشعة الليزر من الفضاء.

وفي سياق آخر، اتهم رئيس الوزراء الماليزي، أنور إبراهيم، شركة "ميتا" بقمع حرية التعبير بشكل علني، وذلك بعد حذف منصتي "فايسبوك" و"إنستغرام" منشورات لابراهيم حول اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية. وفي الإطار ذاته، عطّلت السلطات التركية منصة "إنستغرام" أياماً، ووصف الرئيس التركي رجب طيب أدوغان، شركة "ميتا"، بالفاشية الرقمية بسبب حجب المنشورات المتعلقة بمقتل هنية.

والحال أنه كما تداعت أسطورة "نهاية التاريخ"، تبددت أيضاً أوهام اليوتوبيا الرقمية التي عوّلت على شبكات التواصل الإجتماعي والفضاء الأوسع للإنترنت، لتكون أفق تحرّر جذري، يأتي من القواعد ومن الحشود الافتراضية وبالأدوات التقنية المحايدة.

في منطقتنا، نعرف أكثر من غيرنا تهافت آمال المركزية الرقمية. مرة أولى، بالهزيمة الساحقة لربيعنا العربي الذي لم يعد أحد يتذكره اليوم سوى من باب التهكم أو الحسرة في أفضل الأحوال. وفي هزيمتنا تلك، خبرنا، بالطريق الصعب وبأثر رجعي، محدودية اللامركزية والعفوية والشبكية في الفعل السياسي طويل المدى، وبالأخص في مواجهة قوى مادية باطشة، مركزية ومسلحة ومنظمة على نسق هرمي تسلسلي. وتالياً، تابعنا كيف تتحول الفضاءات الرقمية نفسها إلى ساحات مُحكمة للقمع والتقييد والعقاب. من جهة، بإتقان الأنظمة السلطوية لفنون التتبع والمراقبة والحجب وتوظيف أسراب الذباب الإلكتروني ودوامات الأخبار الكاذبة والتزييف العميق وغيرها من أدوات الهيمنة والتوجيه والتحكم. ومن جهة أخرى، بفرض إدارات شبكات التواصل والمنصات الرقمية نفسها، رقاباتها الخاصة على موضوعات وقضايا وألفاظ وصور بعينها، وذلك في تماهٍ مع خط السياسات الإمبراطورية في ما يخص فلسطين وغيرها من القضايا. فتُوقع الجزاءات على أصحاب الحسابات المتمردة، بالتقييد والحجب وأحيانا المحو بالكامل. وهو ما أجبر المستخدمين على استخدام التشفير واللغات المهشّمة بهجين من حروف ورموز وأرقام، بغية التحايل على الخَرَس المفروض إلكترونياً، من "ميتا" وغيرها من كبرى الشركات الرقمية.

غير القمع الصريح والعقوبات الاعتباطية التي يصعب توقع آلياتها، وهي في معظم الأحيان غير قابلة للتظلم أوالاستئناف أمام قضاة مستترين للشبكات الرقمية، فإن الصِّدامات المتتالية مؤخراً لإيلون ماسك مع حكومات حليفة للولايات المتحدة، أو من ضمن خصومها، تعكس شخصنة عمليات التحكم في منصة واسعة التأثير مثل "أكس"، وتشير إلى دور رأس المال في التحكم في ما يمكن تصوره فضاءً عاماً معولماً، طبقاً للأهواء الفردية للرجل الأكثر ثراء في العالم. وبشكل مشابه، فإن الشكاوى المتتابعة ضد "ميتا"، وضد هيمنتها الأخطبوطية على كبرى المنصات، تعيد تأكيد الطبيعة شبه الاحتكارية للعالم الرقمي، والذي يتحكم فيه عدد محدود من الشركات، تتمركز غالبيتها، إن لم نقُل كلها، في الولايات المتحدة.

الصِّدامات المتوالية بين المنصات الرقمية والحكومات، لا توحي بإعادة هيكلة للعالم الرقمي لصالح المستخدمين. بل على العكس، تشي تلك الخلافات العلنية بشد وجذب بين الطرفين، لا مكان فيه للجمهور سوى بوصفه موضوعات للضبط.

*المصدر: المدن