أموال لدعم أمني.. و"بيروت 1" مؤجل حتى رسم ملامح لبنان الجديد

يعيش لبنان حالة من المراوحة القاتلة. فالاستحقاقات المالية والنقدية ما زالت مجمّدة في دائرة الانتظار، واتفاق وقف إطلاق النار يُطبَّق من جانب واحد فقط، فيما يظل قرار حصر السلاح بيد الجيش اللبناني رهين عقبات شائكة، وهو بيت القصيد ومحطّ أنظار العالم.

وكان من المفترض عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان فور دخوله مرحلة جديدة بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة. وقد لعبت فرنسا دورًا أساسيًا في التسويق لهذا المؤتمر لدى الجهات الدولية، وحدّد موعده المبدئي في أيار/مايو، قبل أن يتأجّل ويُرحّل الحديث عنه إلى الخريف.

ومؤخرًا عادت باريس لإحياء فكرة المؤتمر، حيث زار الموفد الرئاسي الفرنسي، جان إيف لودريان، بيروت ثم الرياض، حاملًا مقترحين: الأول مؤتمر مخصّص لدعم المؤسسة العسكرية حصرًا، والثاني مؤتمر أوسع تحت اسم "بيروت 1"، على غرار مؤتمرات "باريس 1 و2"، يهدف إلى تقديم مساعدات مالية للبنان لإعادة النهوض الاقتصادي وتطوير البنى التحتية وإطلاق عملية إعادة إعمار الجنوب.

باريس تطرح عبر لودريان خيارين: مؤتمر لدعم الجيش أو مؤتمر أوسع باسم "بيروت 1"

الجيش أولًا

لا يبدو أن المسارين يسيران على خط واحد، إذ علمت "الترا صوت" أن الأولوية الآن هي لدعم الجيش اللبناني فقط. وهو ما يضع باريس في تقاطع مع موقفي الرياض وواشنطن، خصوصًا بعدما أعلن البنتاغون عن حزمة مساعدات أمنية للبنان تفوق قيمتها 14 مليون دولار لتعزيز قدرات الجيش في مواجهة التحديات الأمنية.

وتتجه أنظار المجتمعين العربي والدولي بالدرجة الأولى نحو حزب الله وملف تفكيك ترسانته العسكرية، في ظل الرهان على قرار الحكومة اللبنانية خلال جلستي 4 و7 آب/أغسطس بإنهاء كل أشكال السلاح غير الشرعي، سواء في المخيمات الفلسطينية أو لدى حزب الله والأحزاب الأخرى.

وفي هذا السياق، يجري الإعداد بشكل جدي لعقد مؤتمر منتصف تشرين الأول/أكتوبر المقبل لدعم الجيش، على ضوء الخطة التي عرضها أمام مجلس الوزراء في جلسة 5 أيلول/سبتمبر، والتي شددت بوضوح على حاجة المؤسسة العسكرية إلى دعم مالي لتأمين العتاد والكوادر.

باريس أم الرياض؟

لا يزال مكان انعقاد المؤتمر غير محسوم، بين الرياض وباريس. وتشير المعلومات إلى رغبة فرنسية بأن يُعقد في المملكة العربية السعودية، وقد فاتح لودريان المسؤولين السعوديين بهذا الأمر فلاقى قبولًا مبدئيًا.

وتلتقي باريس وواشنطن عند فكرة انعقاد المؤتمر في عاصمة عربية، لما يعنيه ذلك من إشراك الدول العربية في دعم لبنان، أي تبنّي الخطوات التي يتخذها لبنان الرسمي لإعادة بناء الدولة وإنهاء الوجود العسكري لحزب الله، تمهيدًا للانتقال لاحقًا إلى مرحلة الإعمار وضخّ الاستثمارات.

وتؤكد المعطيات أن أي مبادرة تجاه لبنان تبقى مؤجَّلة إلى حين إنجاز الملفات الأمنية بالكامل. وتختصر مصادر سياسية هذا الواقع بالقول: "كان من المرتقب أن يقوم الرئيس جوزاف عون بزيارة ثانية إلى السعودية مطلع العام لتوقيع 23 مذكرة تعاون بين البلدين، لكننا اليوم في أيلول/سبتمبر ولم يحصل أي تعاون استثماري. ما يؤكد أن لبنان ما يزال في ثلّاجة الانتظار".

"بيروت 1"

يتّضح من هذا السياق أن إعادة ترتيب البيت اللبناني تحظى بالأولوية، عبر تعزيز القوى الأمنية وضمان نجاح خطة الجيش، ومن بعدها لكل حادث حديث.

فما مصير "بيروت 1" إذاً؟

الموضوع ما يزال في طور الإعداد، مع اقتراح مبدئي لانعقاد المؤتمر قبل نهاية العام 2025، غير أن أي خطوات عملية لم تُتَّخذ بعد، والإخراج السياسي له لم ينضج بعد.

فالدفع الفرنسي وحده لا يكفي، إذ تتعارض الإرادة الفرنسية مجددًا مع الموقف الأميركي، حيث لا تبدي واشنطن حماسة، بل تشير الكواليس، بتناغم مع إسرائيل، إلى مسار أبعد من مجرد دعم للبنان.

لا مساعدات للبنان حاليًا، ومؤتمر "بيروت 1" مؤجل حتى يلتزم بالشروط الأميركية

تسعى الولايات المتحدة بشكل واضح إلى توسيع دائرة "اتفاقات أبراهام" بين إسرائيل والدول العربية، والعين هذه المرة على سوريا ولبنان. ففي 25 أيلول/سبتمبر يُرتقب أن يبصر الاتفاق الأمني السوري ـ الإسرائيلي النور في نيويورك، وسط تساؤلات عن مستوى التمثيل: هل سيقتصر على وزراء كما في لقاءات باريس وأذربيجان، أم سيتجاوزه؟ الثابت حتى الآن هو أن الاتفاق سيتم.

وعليه، تنقل مصادر سياسية عبر "الترا صوت" أن الرسالة الأميركية إلى بيروت واضحة: عليها أن تقتدي بدمشق. ورغم أن اتفاق سلام أو تطبيع مباشر مستبعد حاليًا، فإن الباب مفتوح أمام مفاوضات مباشرة.

وتجزم المصادر أن هذا المسار بدأ بالفعل منذ لحظة حُصِرَ التجديد لقوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان "اليونيفيل" بسنة واحدة فقط، على أن تغادر نهاية العام 2026. حينها سيكون لبنان ملزَمًا بالتنسيق بعد مغادرة الوسيط، ضمن "ميكانيزم جديد" (آلية لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار).

لا أموال الآن

كل المؤشرات تؤكد أن لا أموال ولا مساعدات ستتدفق لدعم لبنان اقتصاديًا في الوقت الراهن، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بأن يبصر مؤتمر "بيروت 1" النور قبل أن يوضع لبنان على السكة التي يريدها الأميركي، الذي بدأ يتحدث عن منطقة اقتصادية في جنوب لبنان كجزء من المشهد المستقبلي.

أما مؤتمر المانحين، فعندما يُعقد، سيكون بمثابة سلّة شاملة ترسم ملامح لبنان الجديد اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا. ويبقى السؤال: هل حان الوقت فعلاً، أم أن الاستنزاف سيستمر حتى عام 2026؟