كلهم مذنبون: فتح الدفاتر «العتيقة» لم ولن يفيد احداً!

ارتأى البعض ان يفتح «الدفاتر العتيقة» عند مقاربة بعض الملفات الخلافية التي ما زالت تنزف بسبب مجموعة الأزمات التي تناسلت، ومزجت بين ما هو سياسي وإداري ودستوري ونقدي، بكثير من النكد السياسي والمناكفات الشخصية التي رفعت المتاريس بين السلطات والمؤسسات الدستورية. وفيما توقّع أحدهم الذهاب إلى «جهنم»، تحدث آخر عن دخول «العصفورية». وعليه، فهل سيكون من مصلحة أحد من «المذنبين» فتح هذه الدفاتر؟ أم انّها باتت خطوة لم تعد تفيد أحداً منهم!

 

تعترف مراجع سياسية، بأنّ المسؤولين اللبنانيين استنفدوا طوال السنوات الماضية ما يمتلكون من أوراق في مناكفاتهم السياسية، ولم يوفّروا مختلف الوسائل التي تسمح لهم بتعزيز مواقعهم الشخصية والحزبية والطائفية، فأداروا البلاد وشؤون العباد بطريقة عطّلت معظم المؤسسات والسلطات الدستورية، فافتقرت إلى أصول التعاون والتنسيق في ما بينها، وقادتها الى مرحلة من الشلل وتعطّلت مهمّات بعضها وفقدت خدماتها، باستثناء السلطة التشريعية التي تمكنت في الخامس عشر من ايار العام الماضي، ان تجدّد نفسها بانتخابات نيابية عامة، ولكنها لم تفلح حتى اليوم في إتمام الاستحقاقات الدستورية التي عليها واجب القيام بها، والتي تخرج عن إطار هيكليتها.

فبعد أن جدّدت هذه السلطة لرئيسها وانتخبت نائبه وأميني السر وأعضاء مكتب المجلس ورؤساء اللجان النيابية ومقرّريها، عجزت عن القيام بأي مهمة أخرى مطلوبة منها، ولا سيما منها تلك المتصلة بانتخاب رئيس الجمهورية وإقرار القوانين المطلوبة لمعالجة الوضع المالي والنقدي ووضع حدّ للاستنسابية في التعاطي مع ودائع الناس ومدخّراتهم. ولم تتمكن من القيام بأي مهمّة تسهّل التفاهم بين السرايا الحكومي والقصر الجمهوري، فبقيت البلاد بلا حكومة بكل مواصفاتها الدستورية، تصرّف أعمالاً بما ندر من صلاحيات، طالما أنّها لم تنل ثقة المجلس النيابي الجديد، وهو ما أدّى الى تعثر كثير مما كان مطلوباً في العلاقة الواجب قيامها بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ولعلّ أخطر ما تجلّت به مظاهر العجز والفشل، تكمن في عدم التوصل الى اصدار اي من القوانين والمراسيم التي تتعلّق بالإصلاحات المالية والإدارية والقانونية، ومنها التي تحاكي التفاهمات التي عُقدت بالأحرف الأولى وعلى مستوى الموظفين، سواء مع مع البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، امتداداً الى التعهّدات التي قطعتها المنظومة مع المؤسسات الدولية ولم تنفّذ اياً منها على الإطلاق. وهي سيرة تعود في اصولها إلى ما تقرّر في مجموعة مؤتمرات باريس الثلاثة ومؤتمر «سيدر». ولذلك تراجعت صدقية الدولة وانهارت علاقاتها الدولية، إلى ان تحوّلت مجرد دولة مارقة تفتقد الى الدعم الذي تستحقه على اكثر من مستوى. واضطرت المؤسسات الدولية والأممية الى التعاطي مع الهيئات والجمعيات والمؤسسات الخاصة، وتلك التي تكتسب صفة المنفعة العامة في المجتمع المدني، فيما اضطر بعض الدول المانحة الى تأسيس مكاتب لها، تدير معوناتها وتوفّر مساعداتها مباشرة الى اللبنانيين، بلا اعتماد على اي من القنوات والمؤسسات الحكومية.

لا يتسع المقال للتوقف عند نماذج فاضحة تتناول بعض القطاعات العامة وطريقة مواجهة الملفات الخطيرة بكيدية سياسية غير مسبوقة، وبطريقة أفقدت الثقة بكثير منها، وهو ما جعل محاولات البعض اليوم لفتح «دفاتر الماضي» في محاولات بائسة لتبرير اي قرار أو خطوة اتُخذت في تلك المرحلة، وقادت الى ما قادت إليه من فشل ذريع، تجلّى بشلل السلطة التنفيذية بعد تغيّب الإجرائية منها نتيجة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، وبقي المجلس النيابي عاجزاً عن مواجهة القضايا المطروحة نتيجة الخلافات حول مدى قدرته على التشريع بما فيه الضروري، الذي لا يُؤجّل ولا يمكن تجاهله، في مثل هذه الظروف التي تعيشها البلاد، كما بالنسبة الى عدم القدرة على إصدار القوانين في غياب رئيس الجمهورية، الذي يمكنه ردّها إن دعت الحاجة في حال سُجّل اي خرق دستوري، او نشرها بعد توقيعها، إن كانت بمواصفاتها الدستورية.

ولذلك، نصحت المراجع المراقبة بعض المسؤولين الراغبين بالعودة الى تطورات الماضي بعدم المحاولة، وعدم التذكير بطريقة معالجة بعض الاستحقاقات الدستورية والقانونية، بما فيها إعاقة تشكيل حكومة شرعية، قبل مرور المهل الدستورية الخاصة بانتخاب الرئيس او نهاية ولايته، من دون القيام بهذا الواجب. ولفتت الى انّ الأخطاء التي ارتُكبت، وقارب بعضها ان يكون من الجرائم القانونية والسياسية والإدارية والدستورية، بعدما عجزت هيئات الرقابة والتفتيش والمحاسبة من ان تقوم بواجباتها أو ان تستنسب في ملاحقة صغار المخالفين والمرتكبين، وترك من ارتكب الكبائر حراً طليقاً يتمتع بمزايا المواقع العليا في الدولة وسلطاتها ومؤسساتها من دون ان يرف له جفن، إما لأنّه يتمتع بفائض من القوة التي لا ينازعها عليها أحد، ام انّه قادر على الاحتماء بمرجعيته السياسية والحزبية او الطائفية.

ولذلك، فإنّ معظم ما تعاني منه السلطتان التشريعية والتنفيذية لم يكن مفاجئاً لأحد. فقبل نهاية ولاية الرئيس العماد ميشال عون كان واضحاً انّه لن يُسمح بانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، بفضل المعادلة السلبية المتحكّمة بتركيبة المجلس النيابي وفقدان الأكثرية النيابية السابقة التي كانت تستطيع توفير النصاب القانوني لأي اقتراح او مشروع قانون يمكن ان يُطرح عليه، ولم تتمكن من انتخاب الرئيس بعد 12 جلسة، شكّلت حلقات من مسلسل طويل خُصّص لانتخابه بلا جدوى. وفي ظلّ هذه الأجواء، باتت القوانين التي أُقرّت تُحصى بأصابع اليد الواحدة، على الرغم من الحاجة الى كثير منها، بعدما أقرّت 77 قانوناً في فترة الشغور التي امتدت من 25 ايار 2014 وحتى الاول من تشرين الثاني 2016.

وما ينسحب على المجلس النيابي والسلطة التشريعية ينطبق على التنفيذية منها والعمل الحكومي. وكل ذلك سببه عدم وجود اي نية لتشكيل حكومة جديدة. وفي الوقت الذي طرح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أول صيغة حكومية له في الثلث الأخير من حزيران 2022، بعد ايام على تكليفه تشكيلها من قِبل المجلس النيابي، نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية، بطريقة اعتبرها الرئيس يومها تجاوزاً لدوره وموقعه، رافضاً أن تكون رئاسة الجمهورية صندوق بريد. فتعطّلت بقية الصيغ التي طُرحت، نتيجة التحالفات التي بُنيت على المناكفات وانواع شتى من الكيدية السياسية المفرطة. وهو ما زاد من حدّة الخلافات الداخلية الى درجة لم يعد احد يريد حكومة جديدة.

ولا ينسى المراقبون عند مقاربتهم لهذه الحقبة، التذكير بأنّ الرئيس المكلّف الذي تمترس حول الصيغة الحكومية التي اقترحها بكل تركيبتها بعد اسقاط الاسماء على الحقائب كاملة، رافضاً إعطاء الاهمية لحقوق رئيس الجمهورية وصلاحياته في عملية التشكيل، مدعوماً بمواقف كتل نيابية تشارك في الاصطفاف الذي قام في حينه، ومعه قيادات سياسية وحزبية برّرت له المماحكات السياسية على خلفية معادلة بسيطة لا يمكن اعادة النظر فيها في ظل غياب اي صيغة قانونية او دستورية، تُنهي التكليف الذي ناله لتشكيل الحكومة، معطوفة على نظرية اخرى لا يمكن ان تتعرّض لأي تشكيك. وهي تقول، انّه وفي وضعه الذي كان قائماً في حينه، كان وسيبقى من قاطني السرايا الحكومي، قبل وبعد إخلاء رئيس الجمهورية لقصر بعبدا فور نهاية ولايته، غير عابئ بالملاحظات الدستورية التي عطّلت مهمّات حكومته ومنعته من ممارستها كاملة، عدا عن الانتقادات القاسية لآلية العمل التي لجأ إليها قبل نهاية ولاية الرئيس وبعدها، امتداداً حتى الأمس القريب.

عند هذه المعطيات والمؤشرات السلبية التي انعكست على مصير الدولة ومؤسساتها، تنصح المراجع السياسية والديبلوماسية بعدم العودة إلى الوراء، وعدم استحضار الماضي والتذكير بالأخطاء التي مورست. فما حلّ بالبلاد كان نتيجة حتمية لتلك المخالفات والجرائم والذنوب التي ارتكبها الجميع بلا استثناء، ومن يريد النقاش لن يستطيع إبعاد الشبهات والاتهامات عن اي من أبطال تلك المرحلة، والأخطر انّهم هم أنفسهم ما زالوا يتحكّمون بالدولة ومؤسساتها إلى اليوم.