خلف القتال الذي تخوضه "حماس" في غزة والردّ الإسرائيلي الصاعق، تتحرك أصابع الكثير من اللاعبين في المنطقة والعالم. وثمة من يخشى أن يقود ذلك إلى غرق الشرق الأوسط في حرب استنزاف تستمر حتى إشعار آخر، بحيث توازي حرب الاستنزاف الدائرة في أوكرانيا.
في اعتقاد البعض أنّ حكومة أرمينيا أخطأت بإعلانها التضامن مع أوكرانيا في حربها مع روسيا. فهي في ذلك، خلعت الثوب الوحيد الذي كان يدفئها: موسكو. ولذلك، كان القرار الروسي بمعاقبتها بقسوة. فجرى رفع الغطاء عن إقليم ناغورني كاراباخ واستسلامه أو تسليمه إلى أذربيجان خلال ساعات، مع ما رافق ذلك من هجرة لما يقارب نصف سكانه.
طبعاً، تمّ ذلك بتغطية مباشرة من تركيا التي لطالما انتظرت اللحظة السانحة لتتخلّص من الهوية الأرمينية للإقليم. وأبرمت لهذه الغاية تفاهمات متعددة الجوانب مع كل من موسكو وطهران.
في المقابل، حصلت إيران على ضمانة من أذربيجان بعدم منح إسرائيل فرصة استخدام أرضها لشن هجمات جوية على المنشآت النووية الإيرانية. وهذا التعهّد قطع الطريق جدّياً في المدى المنظور على تفكير إسرائيل في تنفيذ ضربة من هذا النوع، بسبب عدم امتلاكها البدائل التقنية.
فقد تمكّن الإسرائيليون من ضرب المفاعل النووي العراقي، «تموز»، في العام 1981، لأنّه يقع في المدى الجغرافي المناسب لمقاتلاتهم. لكن بُعد المسافة الفاصلة بين إسرائيل والمفاعلات الإيرانية يستلزم تزويد هذه المقاتلات بالوقود في محطة معينة قبل الوصول إلى الهدف. ولأنّ دول الخليج العربي ترفض التورط في هذه العملية لضرورات عديدة، كانت إسرائيل تفكر في اعتماد النقطة الملائمة والأقرب إلى المفاعلات، أي أن تنطلق مقاتلاتها من أذربيجان المحاذية لإيران. لكن إدارة الرئيس جو بايدن بقيت حتى اليوم تتردّد في توفير الغطاء لهذه الضربة، رغبةً منها في عدم استفزاز إيران، فيما هي تفاوضها وتفضّل إعادتها إلى اتفاق فيينا للعام 2015.
جرّب الإسرائيليون خيار الهجمات السيبرانية على المواقع الإيرانية، كما استهدفوا الأدمغة التي تديرها، ونجحوا فيها إلى حدّ معين، لكن ذلك لم يكفل وقف نمو القدرات النووية الإيرانية.
بعد التفاهمات المتعددة الأقطاب، التي تمّت تحت الطاولة في مسألتي أوكرانيا وأرمينيا، بات الإيرانيون أكثر اطمئناناً إلى أنّهم في المأمن عسكرياً. ولذلك، هم انصرفوا إلى تدعيم الأوراق التي يمكنهم استخدامها في المواجهة كما في التَفاوض. وفي هذا السياق، أطلقوا العنان لضربتهم النوعية في غزة، وهم يدركون أنّ إسرائيل ستكون عاجزة عن الردّ عسكرياً في إيران. والميزة التي يتمتع بها الإيرانيون هي أنّهم «يحاصرون» إسرائيل إلى حدّ معين. فهم موجودون عملياً في غالبية خطوط التماس الإسرائيلية، جنوباً من خلال «حماس» وشمالاً من خلال «حزب الله». وفي أي لحظة، يمكن تطبيق قاعدة «وحدة الساحات» لإشعال هذه الخطوط وإشغال إسرائيل في كل الاتجاهات، وإظهار الثغرات التي تعتري قبّتها الحديدية وخططها الاحترازية، كما حصل عند تنفيذ عملية «طوفان الأقصى».
بالتأكيد، أطلقت «حماس» هجومها برعاية مباشرة من إيران. ولكن، أيضاً، كان هناك غضّ طرف من جانب روسيا على العملية. فصحيح أنّ الروس يلتزمون تقليدياً ضمان أمن إسرائيل، أياً كانت الظروف، لكن دعم إسرائيل للأوكرانيين، واصطفافها خلال الحرب، سياسياً واقتصادياً، في المعسكر الغربي ضدّ موسكو، منحا الروس ذريعة الموافقة على توجيه الرسالة إلى إسرائيل، في المكان الحساس، خاصرتها في غزة.
وبين المحللين من يذهب أبعد من ذلك في قراءة ما جرى في غزة. ففي يقينهم أنّ هناك جوانب أخرى في هذه الضربة تؤمّن مصالح طهران وموسكو. فهي تعطّل مسعى واشنطن لترتيب العلاقات بين حليفين تقليديين لها في الشرق الأوسط هما إسرائيل وإيران، وإنشاء جسر صلب من المصالح يربط بينهما. كما أنّها تُغرق الولايات المتحدة في مسائل الشرق الأوسط وتدفعها إلى تخصيص جزء من قواها الدفاعية عبر العالم للدفاع عن إسرائيل بدلاً من وضعها في خدمة أوكرانيا.
ولكن، في الخلفية أيضاً، إفشال بايدن في الشرق الأوسط هو خدمة مثالية للصين التي تنتظر الفرصة لتعطيل مسعاه إلى إفشال مفاعيل اتفاق بكين للمصالحة بين السعودية وإيران، وإطلاق خط السلام المفترض عبوره من الهند إلى السعودية فمرفأ حيفا.
إذاً، بؤرة غزة ربما يُراد لها أن تكون- أو ربما ستصبح بحكم الأمر الواقع- بؤرة موازية لأوكرانيا: هذه مقابل تلك، في عملية التخبط الهائلة، والتي يمكن اعتبارها مخاضاً لولادة ستاتيكو جديد في الشرق الأوسط والعالم.
وفي خضم المساومات والمقايضات التي شهدت التضحية بإقليم ناغورني كاراباخ، ربما تتمّ أيضاً التضحية بآخرين إذا لم يتمتعوا بحكمة الحفاظ على الرأس «عند تغيير الدول». ولبنان واحد منهم.
*المصدر: الجمهورية