من التلويح باستخدام القوة الى التحضير لها

رغم الاعتقاد السائد لدى العواصم الغربية المعنية بالوضع في لبنان بأنّ المعطيات الجدية لا تَشي حتى الآن بأن الحرب ما بين «حزب الله» واسرائيل هي على الابواب، الا أن تطور العمليات العسكرية وارتفاع منسوبها مرة بعد أخرى على وَقع دنو الحملة العسكرية الاسرائيلية البرية على غزة يرسم علامات استفهام مُقلقة.

ومن المفترض أن يبقى وزير الخارجية الأميركي في المنطقة هذا الأسبوع. فهل ثمة جديد حول تسويات يعمل عليها أم أنّ لذلك علاقة بقيام موفد صيني بمهمة للتوسّط لإيجاد حلول تسووية هي الاولى لمسؤول صيني في الشرق الاوسط في ظروف حربية؟

حتى الآن تبدو الاستعدادات العسكرية الاسرائيلية في ذروتها للبدء بالعملية البرية، والتي ستفتح الباب أمام حرب معقدة وحبلى بالمفاجآت وقد تطول لأشهر، خصوصا مع تحصن آلاف المقاتلين الفلسطينيين في مخابىء وداخل انفاق طويلة تحت الأرض. والجيش الاسرائيلي يدرك جيداً أن التفوق التكنولوجي لا يؤمن حسما سريعا للمعركة. فوفق التجارب التاريخية انّ حروب المدن كانت الأصعب والأكثر تعقيدا دوما، أضف الى ذلك أن مدينة مثل غزة تمتاز بالأزقة الضيقة وشبكة من الانفاق تمنع الآليات والمدرعات من التقدّم أو حتى التحرك. ناهيك أنّ ما أثبتته تفاصيل عملية الاقتحام التي نفذتها حركة حماس لناحية التنظيم والدقة العسكرية، والأهم المعلومات التي كانت بحوزتها، مَكّنها من وضع خطة محكمة أدت الى معرفة أماكن وجود أجهزة لا بل شبكة الاتصالات العسكرية وانظمة المراقبة وتعطيلها كلها ونصب الكمائن لقوات المساندة.

ولأنه ثبتَ بأنّ القوات البرية الاسرائيلية ليست في المستوى القتالي المطلوب لا بل على العكس، فإنّ الانطباع السائد هو بأن اسرائيل ستستخدم القوة التدميرية التي تمتلكها كتعويض الزامي، مثل ما يعرف بالقنابل الذكية والتدميرية وتلك المعروفة بخارقة التحصينات والمخصصة لاختراق باطن الأرض. وهذا ما يحتّم استهلاك الكثير من الوقت.

وليست هي النقطة الوحيدة التي ترفع من مخاطر فتح الجبهة اللبنانية بل التخطيط لأن تؤدي نتائج هذه الحرب لتغيير الشرق الأوسط، كما قال نتنياهو.

فاستدعاء اسرائيل لهذا العدد من قوات الاحتياط والذي فاق 300 ألف جندي هو أكبر بكثير من حاجة حرب غزة، والتي لا تحتاج لأسباب جغرافية لأكثر من خمسين الى ستين ألف جندي.

 

وكان لافتاً ما قاله عيران عتسيوب مسؤول الأمن القومي الاسرائيلي السابق لقناة 13 الاسرائيلية انّ القضاء على حماس لا يحل المشكلة ولا يمكن أن يكون هدفا بحد ذاته للحرب. وأضاف بأن المشكلة ليست حماس بحد ذاتها وإنما غزة ووجود نحو مليوني شخص على تلك البقعة.

وهنا تصبح أحد الاهداف المرجوة من الحرب أكثر وضوحا. والمقصود هنا دفع فلسطينيي غزة الى سيناء وازالة غزة من الوجود. وه‍ذا تحديدا ما تعارضه مصر والسعودية وبلدان عربية أخرى، أكثر مِنَ القضاء على حركة حماس أو نفوذ ايران على الساحة الفلسطينية. عندها تصبح احتمالات الحرب المفتوحة أكثر ارتفاعا لأنها ستعني ترسيخ معادلة شرق أوسطية جديدة مناقضة لتلك القائمة حالياً.

 

وزيارة وزير الدفاع الاميركي الى اسرائيل جرى وضعها في اطار انجاز آخر الترتيبات واللمسات الأخيرة للحملة البرية وهذا منطقي وصحيح، لكن زيارة بهذا الحجم وفي هذا التوقيت، من الممكن أن تتضمن أيضا وضع خطط واحتمالات لما هو أبعد من غزة طالما أن هنالك اهدافاً سياسية كبيرة.

 

وخلال الساعات الماضية أعلنت واشنطن إرسال حاملة طائرات ثانية الى الشرق الأوسط. واذا كانت الرسالة التي واكبت ارسال «جيرالد فورد» هي التلويح الجدي بالقوة فإنّ ارسال «أيزنهاور» العملانية يعني التحضير الفعلي لاستخدام القوة. كما أن وجهة الرسالتين كانتا قد حددتا سلفاً وبوضوح: عدم اتساع رقعة الحرب. أو بمعنى آخر باتجاه «حزب الله» وايران.

 

صحيح أن الادارة الاميركية كانت قد عمدت الى تحييد ايران من خلال التصريح بأنه لا يوجد دليل حتى الآن بأنها كانت على علم مسبق بعملية «طوفان القدس» ولا بمشاركتها بالتخطيط، كما أن الرئيس الأميركي لم يأت على ذكر ايران في المرات الثلاث التي تحدث فيها عن العملية، لكن وزير الخارجية بلينكن لم يحسم عدم فتح جبهات أخرى بل قال: لا أريد التخمين بشأن أحداث المستقبل.

 

وقد واكبَ ذلك تجميد واشنطن لمبلغ 6 مليارات دولار كان قد جرى تحويلها من مصارف كوريا الجنوبية الى بنك قطر المركزي في اطار اتفاق شفهي بعدة بنود بين واشنطن وطهران. لكن الدبلوماسية السرية فسّرت للايرانيين بأن اتخاذ هذه الخطوة يهدف لإسكات المزايدات الانتخابية من قبل الجمهوريين والذين يريدون توظيف ذلك في الحملات الانتخابية المستعرة، وسط تعبئة شعبية ضد عملية «طوفان الأقصى».

 

لكننا في الشرق الاوسط حيث المفاجآت واردة وكذلك الخداع. وهو ما يعني أن الركون للإطمئنان والوعود هو خطأ قاتل لن يقع فيه احد.

فالأجواء التي نقلت عن وزير الخارجية الايراني لم تكن سوداوية، وآخرها كان ما سمعه مندوب الامم المتحدة لعملية السلام في الشرق الاوسط تور وينسلاند من عبد اللهيان والذي التقاه في بيروت بعد عودة الوزير الايراني من زيارته لدمشق بأن ايران لا ترغب بالتصعيد ولا أن تتطور الأمور الى حرب اقليمية، لكنها تضع خططا موازية قد تترافق مع العملية البرية الاسرائيلية في حال حصولها.

وعاد عبد اللهيان وادلى بموقف اعلامي اكثر وضوحا قال فيه ان لم ينجح وقف العدوان على غزة فاتّساع الجبهات غير مستبعد ويزداد احتماله كل ساعة. وكلام الوزير الايراني هنا يفسّر التدرج التصاعدي للمواجهات عند الحدود اللبنانية.

لكن الاشارات «الحربية» لا تقف هنا فقط. فلقد تم نقل عشرات الكوادر المتخصصة باستخدام الصواريخ المضادة للطائرات والدفاع الجوي التابعة لـ«حزب الله» من مواقعها في البوكمال شمال شرق سوريا الى لبنان. كما فتحت ايران ابواب 

 التطوع لتجنيد مقاتلين من اجل إرسالهم الى الجولان وجنوب لبنان في حال تدهور الاوضاع الامنية. وحددت اعمارهم بألا تتجاوز الـ30 عاما. وسيخضع هؤلاء لدورة سريعة لمدة شهر.

لكن كل ذلك لا يعني حتمية اتخاذ قرار الحرب الشاملة، كما انه لا يعني أيضا استبعادها بالمطلق، خصوصا أنه معروف بأن ايران رسمت محظورا في سياستها بعد انتهاء حربها مع صدام حسين، بأن لا تدخل مستقبلا بالحرب بشكل مباشر. أضف الى ذلك الموقف الغامض للرئيس السوري والذي يعاني من خطر الازمة الاقتصادية الخانقة، وهو ما جعله يطرد البعثة الدبلوماسية الحوثية من سفارة اليمن في دمشق، ويقوم بتسليمها الى السلطة الموالية للسعودية. وكذلك فإنّ الظروف اللبنانية الداخلية صعبة جداً أكان ذلك على الصعيد الاقتصادي او السياسي. واستطراداً، فإنّ كلفة الحرب التي سيشارك بها «حزب الله» وبغضّ النظر عن نتيجتها، ستكون مكلفة جدا على البيئة التي تحميه، وسيكون من الصعب إعادة تعويضها، مع الاشارة الى أنّ مراكمتها تطلب وقتا طويلا وظروفا مختلفة. وكذلك فإنّ اسرائيل ستجد في فتح الجبهة اللبنانية فرصة نادرة لتوجيه ضربة جوية للمواقع النووية الايرانية.

ولا بد من وضع كل هذه المعطيات في الميزان، ولو أن ذلك لا يلغي الاضطرار الى رفع درجة التسخين ولكن من دون الدخول في الحرب، لحماية جوانب الخطاب السياسي.

رغم ذلك فإنّ احتمال إدراج ايران ولبنان لم يعد مستبعدا خصوصا مع تلويح واشنطن بالتدخل المباشر.

الجمهورية