السياسة في لبنان صارت بالقوة، على نقيض نظرية كلاوزفيتر، إستمراراً للحرب بوسائل أخرى. وما كان علينا المسارعة الى فعله لمواجهة أزماتنا العميقة وتحديات حرب غزة والعواصف التي تهب في المنطقة وعليها، وهو «حفظ الرأس وقت تغيير الدول»، فعلنا بالإكراه عكسه: الإنتظار في العراء بلا رأس. أقل ما يقال بدم بارد للناس المضغوطة في الحاضر والقلقة حيال المستقبل بعد 13 شهراً من الشغور الرئاسي، هو أنه لا تفكير أو بحث في الرئاسة قبل ان تنتهي حرب غزة المحتاجة الى «جبهة مساندة» في الجنوب اللبناني. وأبسط ما لا يقال هو أن الوقت حان لأن ندرك ونسلّم بالتبدل الذي حدث في ميزان القوى السياسي والديموغرافي، وبأن وظيفة لبنان الماضية انتهت، ودوره تغير في المنطقة المتغيرة، وبالتالي فان الرئاسة والمؤسسات محكومة بأن تكون إنعكاساً لهذا التبدل وفي خدمته.
لكن نهاية حرب غزة ليست قريبة. ولا أحد يعرف كيف ستكون النهاية، وسط تصورين ضمن رهانين متناقضين: رهان الغرب الأميركي والأوروبي على مرحلة «ما بعد حماس وما بعد نتنياهو». ورهان «محور المقاومة» بقيادة ايران على مرحلة «ما بعد هزيمة إسرائيل وضعف الغرب». ولا حدود للمبالغات في الكلام على متغيرات هائلة أكبر من غزة وفلسطين. شيء من تصور نظام إقليمي جديد في شرق أوسط متغير جيوسياسياً وإستراتيجياً، مقابل أحاديث عن مرحلة جديدة من الفوضى غير الخلاقة في المنطقة. وشيء يصل الى حد التبصير بفناجين القهوة حول نظام عالمي جديد وأمم متحدة مختلفة عن المنظمة الدولية الحالية العاجزة بسبب الشلل وحرب الفيتو بين الكبار في مجلس الأمن. والمفارقة ان ما يرافق كل هذه التصورات هو العجز عن ترتيب صيغة لوضع غزة بعد الحرب وإعادة ربطها بالضفة الغربية، قبل الوصول الى مفاوضات تسوية على أساس «حل الدولتين».
واللافت في كل ذلك ان لبنان «ميدان» في الحرب، ومجرد تفصيل في اللعبة بعدها. والحق على اللبنانيين قبل الآخرين الذين يستسهلون اللعب بالبلد وقواه، ويجدون من يحرضهم على التلاعب به. فمن القليل النادر في نظام طائفي، كما أكد تاريخ لبنان منذ الإستقلال، بروز زعامات وطنية ورجال دولة، مقابل الكثير من أمراء الطوائف وأهل السلطة والمال. ومن السهل، كما رأينا أيام الهيمنة الفلسطينية والوصاية السورية والإجتياح الإسرائيلي والنفوذ الأميركي، ونراه اليوم خلال الهيمنة الإيرانية، توظيف البلد في خدمة أهداف إقليمية ودولية تتجاوز أهداف شعبه.
ذلك أنه لا «المقاومة الإسلامية» هي مجرد مقاومة لأي إعتداء إسرائيلي على لبنان، خارج مشروع سياسي إيديولوجي محلي وإقليمي تقوده ايران، ويعطى فيه لبنان دور «رأس الجسر» في استراتيجية تحرير فلسطين التي تخدم المشروع. ولا لدى أميركا كما يطلب رئيس مجموعة العمل الأميركية للبنان السفير السابق أدوارد غابرييل من إدارة الرئيس بايدن «إستراتيجية للبنان كجزء من استراتيجية للشرق الأوسط، لا عبر إيران ولا عبر إسرائيل». ولبنان اليوم مثل القرار 1701 موجود وغير موجود في الوقت نفسه. حيّ وميت على طريقة أنغلز رفيق ماركس في شرح المنطق الديالكتيكي.
«الوقت لا يرحم الأمور التي لا تتم في أوانها» يقول مثل برتغالي. لكن الوقت ليس وحده من لا يرحم لبنان.
المصدر: نداء الوطن