المناخ في لبنان مسموم. ولا مرة وصلت اللغة الطائفية الى الدرجة التي هي عليها اليوم. لا خلال الحرب، رغم ما حدث فيها من بشاعات، ولا بعدها، ولا قبلها بالطبع، حيث سادت اللغة الوطنية، وبرزت الأحزاب الوطنية العابرة للطوائف، وتعمقت الثقافة الوطنية فكراً وأدباً ومسرحاً وفناً. وليس ما يدور على وسائط التواصل الإجتماعي التي صارت أقرب الى «التشاتم» الإجتماعي بفضل «الذباب الإلكتروني» سوى إنكشاف للقعر الذي نحن فيه. من يرفع شعار «غزة أولاً» يتهم من يرفع شعار «لبنان أولاً» بالخيانة وبالعكس. ومن عليه ان يخدم لبنان ويعمل لإنتشاله من هاوية أزماته العميقة، يستخدمه ويحوله الى «ساحة» مفتوحة لخدمة مشاريع أكبر منه. الزعامات تتصارع على مصالح ضيقة وفئوية فوق سطح سفينة تغرق. وصاحب السلاح يتصور أن ما يراه الجميع سفينة غارقة هو جبهة قوية لإنقاذ غزة وتحرير فلسطين وانتصار المشروع الإقليمي الإيراني.
وهذا أخطر على لبنان من أي حرب شاملة او حرب محدودة لمساندة غزة ندفع كلفتها حالياً. فما نعتز به من قول البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إن لبنان «أكثر من بلد، إنه رسالة»، هو عملياً تذكير بمهمة نبيلة للبلد ومسؤولية كبيرة على اللبنانيين. فالعيش المشترك ليس مجرد وجود طوائف عدة في بلد واحد. ولا تعدد الطوائف يقتصر على لبنان في شرق كله طوائف ومذاهب من ثلاثة أديان سماوية ظهرت على أرضه. ما يميز لبنان هو العيش المشترك بالمعنى السياسي للمشاركة في دولة وطنية.
ولا يستقر العيش المشترك من دون التفاهم على سياسة العيش المشترك في دولة. فكلما اهتز التفاهم على السياسة في الإطار الإستراتيجي تعرض العيش المشترك لزلازل وهزات عنيفة. وإذا خسر البلد «الرسالة» فماذا يبقى منه وله؟ ألا يصبح مساحة جغرافية تعيش فوقها طوائف فقدت اللغة الوطنية المشتركة بينها، وتلعب بها أي قوة إقليمية أو دولية بما يجعلها أكثر من «صندوق بريد» للرسائل الدموية؟ أليست هذه حالنا اليوم؟
المفارقة أن الخلاف الذي فتح الباب واسعاً لإثارة العصبيات الطائفية والمذهبية ليس حول التضامن مع غزة في الحرب المتوحشة التي يشنها الإحتلال الإسرائيلي، ولا حول قضية فلسطين. فالوطن الصغير أعطى الكثير لقضية فلسطين ولا يزال. ولا حق لأحد في أن يطلب منه ما يتجاوز ما يقدمه لها الأشقاء العرب، ولا في أن يأخذه الى محور غير عربي، بصرف النظر عن الشعارات. الخلاف هو ببساطة حول الأولويات: هل هي الإنخراط في مشاريع وصراعات إقليمية معقدة أكبر من لبنان وأوسع من قضية فلسطين ام التركيز على قضايا اللبنانيين وبناء الدولة الوطنية؟ وهو ايضاً على المقياس: هل هو ما يخدم حرب غزة ولو تأذى لبنان أم هو ما يخدم لبنان ويفيد غزة؟
في بدايات الكفاح الفلسطيني المسلح من لبنان وظهور «فتح» ثم منظمة التحرير كان التضامن اللبناني كاملاً مع قضية فلسطين. وبعدما تمادت المنظمات الفلسطينية في الهيمنة على لبنان بما قاد الى الحرب والإجتياح الإسرائيلي والدخول العسكري السوري، قال رئيس الوزراء السابق تقي الدين الصلح للرئيس ياسر عرفات: «نحن نريدك في فلسطين، وانت تريد لبنان، وحيّكها اذا استطعت».
في البلدان العربية والإسلامية نقد شديد لمواقف المؤرخ والمستشرق البريطاني-الأميركي برنارد لويس من الصراع العربي-الإسرائيلي. لكن من الصعب تجاهل قول لويس خلال حرب لبنان إن «لبنان عوقب، لا بسبب أخطائه بل بسبب مزاياه».
*المصدر: نداء الوطن