لهيب لكن تحت سقف مضبوط

تزداد التعقيدات في الشرق الأوسط كلما تقدمت التحضيرات للبحث في المعادلة الإقليمية التي ستنتج عن تسوية «اليوم التالي». صحيح أنّ الشواهد التاريخية المشابهة تلحظ ارتفاع الحماوة قبَيل الذهاب إلى مرحلة التسويات السياسية، لكن المعروف عن الشرق الأوسط أنه الساحة الأكثر تعقيداً في العالم، فكيف إذا مع تغليف التناقضات والصراعات الحاصلة بمسحة الإيديولوجيات الدينية التي تلهب المواجهات وتجعل من الصعوبة بمكان تقديم التنازلات أو التراجع ولو حتى خطوة إلى الوراء.


وقد تكون إحدى الإيجابيات القليلة الموجودة أن أفق الصراع غير مفتوح على الحرب الشاملة، لأنّ القوتين الدوليتين الكبيرتين المناهضتين للولايات المتحدة الأميركية لا تبديان أي ميل للانخراط في الصراع لا بل على العكس. فالصين التي أصيب اقتصادها المتراجع أصلاً بسبب الصراع في البحر الأحمر دعت لضمان أمن الممرات المائية في إشارة الى عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، وروسيا الغارقة في حرب أوكرانيا والقَلِقة على وجودها العسكري في سوريا، ناشدت حركة حماس حل قضية الأسرى.

ولأنّ المشهد في المنطقة عالق من جهة بين حساسية الصراع المغلف بالإيديولوجيات الدينية لتحسين الأوراق والمواقع في التسويات السياسية، ومن جهة أخرى بالتمنّع الدولي عن الانزلاق باتجاه الحرب الشاملة، ارتفعت السخونة على مختلف المحاور ولكنها بقيت تحت سقف مضبوط بإحكام.

 

وهكذا ارتفعت سخونة المواجهات في البحر الأحمر وفي جنوب لبنان وفي سوريا حيث نفّذت إسرائيل اغتيالات نوعية، وفي المقابل طالت صواريخ إيران سوريا وأربيل وصولاً إلى وجهة جديدة هي باكستان. وطبعاً بقيت الحرب الدائرة في غزة هي المحور الأساسي، ما يعني أنّ الحل يبدأ من هناك.

في الواقع لم يُبد نتنياهو أي رغبة أو إشارة بإمكانية إعلان وقف إطلاق النار. وعلى الرغم من ضغوط البيت الأبيض بقيَ نتنياهو مُصراً على رفضه القبول بحل الدولتين، أو بعبارة أوضح تمسّكه بتهجير الفلسطينيين من غزة والضفة لاحقاً. ولا شك أنه يحسب بأنّ الوقت يلعب لصالحه ليس فقط على المستوى الداخلي بل خصوصاً على المستوى الأميركي بسبب بدء العد العكسي للانتخابات الأميركية.

ففي الوقت الذي يُلمّح فيه بايدن إلى حل الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح عندما يشير إلى وجود دول أعضاء في الأمم المتحدة لا تملك جيوشاً، يعمل نتنياهو على نقل معركته مع بايدن إلى قلب واشنطن حيث يستقوي بالكونغرس لتحدي بايدن تماماً كما فعل مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما العام 2015.

 

ويتمسّك نتنياهو بذريعة أنّ إعلان وقف إطلاق النار قبل القضاء على التركيبة العسكرية لحركة حماس سيعتبر بمثابة هزيمة لإسرائيل وانتصار لحماس ومن خلفها لإيران التي ستترجم ذلك بتعزيز موقعها في المعادلة الإقليمية الجديدة، ويتمسّك الجمهوريون بوجهة النظر هذه.

لكنّ الهجوم المعاكس لنتنياهو جاء للتخفيف من ضغط الإدارة الأميركية والتي تشجع على تأليب المعارضة الإسرائيلية وصولاً إلى «تطيير» الحكومة.

 

ومن هنا جرى التركيز في بعض الإعلام الإسرائيلي على معادلة وجوب الاختيار بين تدمير حماس أو تحرير الرهائن، والهدف إثارة عاطفة الشارع الإسرائيلي والذي للمفارقة لم يتحرك كثيراً.

 

فتأثير عملية «طوفان الأقصى» كان عميقاً لدرجة أنّ الأولوية الإسرائيلية ما تزال لمنع تكرار ما حصل مستقبلاً، وقبل البحث بمصير الأسرى.

لكن الوقت يضيق على إدارة بايدن، والتي ستعمل على رفع مستوى الضغط الداخلي على حكومة نتنياهو «لتطييرها» للذهاب إلى انتخابات جديدة تُقصي اليمين الإسرائيلي وتأتي بحكومة توافق على مبدأ حل الدولتين، وبالتالي إطلاق مسار ترتيب الصورة الجديدة للشرق الأوسط.

 

وهو ما يعني بأنّ إعلان وقف إطلاق النار في غزة ما يزال بعيداً، وهو ما يفسّر كلام وليد جنبلاط بأنّ الحرب يمكن أن تمتد لمدة عام مع تلميح باحتمال انزلاق لبنان باتجاه الحرب عندما تحدث بأنّ أبواب الجبل مفتوحة أمام النازحين كما حصل العام 2006.

ولكن قبل ولوج المشهد اللبناني، من الواضح أن الترتيبات الإقليمية الجارية بموازاة لهيب الحرب تؤشّر إلى وجود تحضيرات للمرحلة اللاحقة.

 

فالصراع الدائر في البحر الأحمر دفعَ بمصر إلى فتح المسالك التفاوضية لا العسكرية. ووفق الأوساط الديبلوماسية فإنّ اتصالات مكثفة حصلت بين القاهرة وطهران سمع خلالها المسؤولون المصريون أن الحوثيين لن يوسّعوا دائرة استهداف السفن خارج تلك التي وجهتها اسرائيل أو ترتبط بها.

كذلك عُلم بأنّ وزير الخارجية الإيراني سيزور القاهرة قريباً إثر اتصال حصل بين الرئيسين المصري والإيراني.

 

أما في سوريا وفي وقت انتقلت فيه إسرائيل إلى مرحلة جديدة من استهداف الأسلحة والذخائر إلى اغتيال القيادات العسكرية والأمنية الإيرانية الكبيرة وسط صمت روسي، فإنّ مشاورات جَرت لعقد جولة مفاوضات جديدة حول مستقبل سوريا بصيغة أستانة. طبعاً فإنّ لانعقاد جولة جديدة في هذا التوقيت بالذات وفي مرحلة التحضير للخريطة السياسية الجديدة للمنطقة، مؤشراتها البليغة.

 

ولكن الأهم ما تشهده الأجهزة الأمنية السورية أو الذراع الأساسية للنظام من خطوة لإعادة هيكلتها وصولاً إلى حصرها لاحقاً تحت قيادة واحدة وذلك برعاية موسكو.

 

وقيل إنّ الترتيبات الجديدة لم تخل من تنافس «مكتوم» بين روسيا وإيران.

لكن هذه التغييرات ما تزال شكلية وغير مؤثرة بشكل كبير في البنية الأمنية والإدارية ولو أنها تعتبر خطوة أولى غير معهودة على المستوى الأمني. لدرجة أنّ البعض وضعها في إطار برنامج سيؤدي لاحقاً إلى إعادة تنظيم الحضور الإيراني في سوريا لصالح روسيا.

أما في لبنان وفيما ترفع إسرائيل من مستوى ضغوطها فإنّ الاتصالات بقيت ناشطة بين بيروت وواشنطن وتحديداً بين الرئيس نبيه بري والمفاوض الأميركي آموس هوكستين، ولكن بعيداً عن الإعلام.

 

وفي وقت يُبدي فيه لبنان مرونة للبحث في ترتيب الوضع جنوباً، بَدا أنّ المناخ الإسرائيلي الذي يحمله هوكستين بأنّ المعادلة التي كانت قائمة سابقاً لم تعد صالحة للعمل وأنه لا بد من معادلة جديدة قائمة على الهدوء مقابل الهدوء.

 

طبعاً «حزب الله» يرفض هذه المعادلة وهو يربطها من جهة بوقف إطلاق النار في غزة، ومن جهة أخرى بتثبيت الحدود اللبنانية وإزالة الخروقات الإسرائيلية كمدخل للبحث في القرار 1701 وبشكل كامل.

 

ورغم ذلك فإنّ الأوساط المتابعة لا ترى الأجواء اللبنانية مقفلة بدليل التواصل القائم والمستمر بين الرئيس بري وهوكستين، والذي يؤشر للتحضير للمرحلة المقبلة رغم الأجواء الحربية السائدة.

لكنّ السؤال الذي لا يملك أحد قُدرة الإجابة عنه، هو: متى سيصل التقدم باتجاه التسوية؟ فحتى نتنياهو الذي يشكّل نزوله عن المسرح بداية الانطلاق باتجاه المسار الآخر، لا يملك الجواب.

*المصدر: الجمهورية