التاريخ يعيد نفسه. وإن تكرر فمأساة أو مهزلة. الممانعة ليست مقصودة بكلام ماركس هذا، لكنه ينطبق عليها. الحرب الأهلية توقفت مع «الطائف» لتستعاد مرة أولى في مأساة الوصاية ومرة ثانية في مهزلة الميليشيات. نجاحهم في تعطيل انتخابات الرئاسة في المرة الأولى شجعهم على رمي الوطن في غياهب الجب العوني، فكانت المأساة. فهل يمتنع مرشح الممانعة عن أن يكون معبراً إلى المهزلة؟ وهل يقلعون عن اعتبار مأساة 2006 انتصاراً فيوقفوا مسلسل الخسائر في مهزلة الإسناد والمشاغلة؟
«لولا الطائفية كانوا سحبونا من بيوتنا» قالها نبيه بري في الانتفاضة التي سبقت الثورة. ثم انتبه إلى أنّ استخدامه هذا السلاح الخادع، وهو العلماني حتى العظم، بمثابة مأساة، فنزلت الميليشيات في الثورة بالعصي والسلاح الأبيض وأسلحة الصيد والموتوسيكلات لتحميهم من غضب الشارع. تلك هي مهزلة المنظومة الحاكمة.
خرج الرئيس من القصر واستقالت حكومات وتحولت الانتفاضة إلى ثورة ثم خمدت ونكبت البشرية بالوباء وتفاقمت أزمات الفساد والمال والنقد والاقتصاد والمعيشة. كل شيء تغيّر أو تبدّل إلا النظام العميق في لبنان وحده ما زال يستخف بالوقت وبقوانين التاريخ ويلهو بأوجاع الناس.
طاولة الحوار في نسختها التأسيسية التأمت قبل حرب تموز 2006 واستؤنفت بعدها. كانت وظيفتها تقطيع الوقت بانتظار إقناع القوى المحلية والإقليمية والدولية بتسليم الميليشيات إدارة الشأن العام وتشريع نهجها في الحكم.
بلاؤها أرضى أصحابها وشجّعهم على تكرارها عام 2015 لتثمر ما يفوق المأساة دماراً للدولة واقتصادها ومؤسساتها المالية والنقدية والإدارية وتهديداً بالدمار لأجهزتها الأمنية وللسلطة القضائية ووعداً للبنانيين بالانتظار على باب جهنم. في مهزلة التكرار الثالث عام 2022 لم يعد أحد يصدق الراعي فيما ذئب الانهيار يهدد القطعان.
لقد تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود وبات كل شيء واضحاً كالشمس. الممانعة مصرة على إدخال الوطن في مرحلة المهزلة. غير أنّ للسياديين رأياً آخر، والسياديون ليسوا حزباً أو فئة بل هم اللبنانيون. فلكي تكون لبنانياً عليك أن تكون سيادياً مع الدولة والدستور والقانون، وإلا فأنت ماض في طريق الخيانة من غير أن تدري.
السياديون ردوا على المأساة بانتفاضة فجرتها أزمة النفايات، وردوا على المهزلة بثورة أشعلتها ضريبة على الاتصالات. أغلب الظن أنّ الضغوط الطائفية لن تبرر الإصرار على تكرار المآسي والمهازل ولن تشكل حماية لا لبيوت ولا لعروش، بل ستنفجر هذه المرة بأصحابها.
ثورة 17 تشرين رسمت خارطة طريق للحل من أربعة عناوين رئيسية: تشكيل حكومة بغير آليات المحاصصة، من كفاءات ومتفوقين وما أكثرهم في كل المجالات، في العلوم والأعمال والفنون وفي جمال الخلق والأخلاق. استرداد الأموال المنهوبة كخطوة أولى على طريق حل الأزمة النقدية والمالية والاقتصادية. تعزيز استقلالية القضاء لتمكينه من محاكمة الفاسدين ولصوص المال العام. إعادة تكوين السلطة استناداً إلى تطبيق سليم لدستور الطائف والتزام صادق بأحكامه.
اختار أهل الحكم الطريق المعاكس. أمعنوا بالمحاصصة وازدراء الكفاءة واحتضنوا الأتباع والموالين وتنافسوا حتى الخصومة وحتى العجز عن تشكيل حكومة. فاقموا الهدر وشرّعوا أمام مافيات النهب المنظم أبواب تهريب السلع المدعومة والعملة الصعبة. أدخلوا السوسة الميليشيوية إلى سلك القضاء وتحاصصوه وألغوا دوره كسلطة إلى جانب التنفيذية والتشريعية، واستبدلوا سيف العدل بمعايير الشفاعة والاستزلام والولاء لولي النعمة لا للقانون. أما دستور الطائف فلم يبق منه سوى استمرار الرئيس على كرسي التشريع لأكثر من ثلاثين عاماً.
الممانعون ينتظرون فتوى من الخارج، أما اللبنانيون فليس أمامهم سوى استعادة ثورتهم المبتكرة واستئنافها تحت سقف الدستور.
المصدر: نداء الوطن