"إقرار الأمن وحكم الدولة في جميع المناطق اللبنانية ونزع السلاح من أيدي اللبنانيين كافة وإعادة الحياة والنشاط إلى الاقتصاد اللبناني وبناء ما تخرب من مرافق البلاد ومعالمها وإزالة التوتر بين لبنان وبعض شقيقاته العربيات، إنطلاقاً من الثوابت الثلاث، الوحدة الوطنية والميثاق الوطني وضمان استقلال لبنان من خلال ميثاقي جامعة الدول العربية والأمم المتحدة".
هذا النص ليس بعضاً من بيان أصدرته جبهة الإنقاذ الوطني عام 1924، بل هو مقطع من خطاب القسم الذي ألقاه فؤاد شهاب أمام البرلمان بتاريخ 23 أيلول 1958 بعد انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية. هل هو الوحيد الذي أقسم على حماية الدستور والوحدة الوطنية؟ كلهم أقسموا، حتى الذي تلعثم منهم في القراءة. لكنه يكاد يكون الوحيد الذي نفذ وطبق حرفياً ما تعهد به أمام نواب الأمة.
هو الوحيد الذي ترك بصمة رئاسية. مأثرته التمسك بـ"الكتاب" وترجمتها بناء الدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص. الدولة السيدة على حدودها وداخل حدودها. بشارة الخوري بنى الاستقلال وابتعد عن صراع المحاور، كميل شمعون حقق تنمية ثقافية واقتصادية، لكن الأول زرع بذرة انتهاك الدستور بتمديد ولايته والثاني دمر الاستقلال حين راح"يسبح مع الأميركيين ونوري السعيد" وسارع إلى الانضمام إلى مبدأ أيزنهاور في 16 آذار 1957، قبل قيام الوحدة المصرية السورية، وهو الذي فتح باب التدخل العربي في الشأن اللبناني.
فؤاد شهاب هو الذي أقفل ذاك الباب بتعبيرات رمزية. لقاؤه عبد الناصر لم يتم في سوريا ولا في مصر بل في خيمة داخل المنطقة المحايدة على الحدود بين لبنان وسوريا. هو وصل أولاً إلى مكان اللقاء.طلب أحدهم منه أن يذهب لاستقبال عبد الناصر على باب المروحية. فكان جوابه، قبل أن نصير رئيسين كنت أنا أعلى رتبة منه في الجيش. انتظره فتصافحا ودخلا معاً إلى الخيمة.
استدعاء الأسطول السادس الأميركي شكل بداية استدراج الخارج، ثم كرت المسبحة، منظمة التحرير الفلسطينية ثم الردع السوري ثم إسرائيل، وصولاً إلى وحدة الساحات ومنصة إطلاق الصواريخ الكاتيوشية أو الكلامية.
رد نقولا ناصيف في كتابه أن فؤاد شهاب رأى في ذلك خطراً وعمالة وخيانة قائلاً،"ألم يدرك هؤلاء المستعينون بالخارج على أخصامهم أن الدول والقوى الخارجية تستخدمهم لخدمة مصالحها؟ ثم تعصرهم وترميهم كما ترمي الليمونة؟". كأنه يقول بلغة المتنبي:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه تصيده الضرغام في ما تصيدا
أخذ عليه خصومه ومنافسوه منح "المكتب الثاني" صلاحيات واسعة أتاحت له التدخل في الشأن السياسي. صحيح أن المكتب الثاني مارس نفوذاً سياسياً ولا سيما بعد محاولة انقلاب القوميين السوريين، لكن هذا لم يكن بناء على تعليمات فؤاد شهاب الذي غضب بعد نتائج انتخابات 1964 قائلاً: "كيف يمكنني أن أبرر للفاتيكان كي يصدق أن ريمون إده وكميل شمعون خسرا الانتخابات لأنهما لم يستطيعا الحصول على عدد كاف من الأصوات؟ هل سيصدق الإكليروس ذلك؟ هل ستصدق فرنسا؟ هل سيصدق أحد أن المكتب الثاني لم يتعمد إسقاطهما؟".
بعد فؤاد شهاب تورط اللبنانيون جميعهم، يميناً ويساراً، منظومة حاكمة ومعارضة شعبية، في عملية استدراج الخارج، حتى قيل إنها حروب الآخرين على أرضنا أو هي حروبنا بالأصالة عن أنفسنا وبالنيابة عن الآخرين.
يختم نقولا ناصيف كتابه بقوله "إن كل رئيس جديد للجمهورية يسأل من أين يبدأ بعد فؤاد شهاب. كان وحده من يسلم إلى الرئيس المنتخب دولة لا تحمل وزر أزمة وطنية ولا كياناً مهدداً ولا جيشاً يخشى عليه ولا ثورة شعبية. كان أول رئيس لا تقوده أحلامه إلى التمسك بالسلطة وأول رئيس يقدم على بناء الدولة وإدارتها ومؤسساتها وأنظمتها وفق مفاهيم وآليات متطورة وأول رئيس يموت فقيراً".
"في كل مكان من لبنان تقريباً، لا في رؤساءه ونظامه ومؤسساته فحسب، شيء من هذا الرجل".
المصدر: نداء الوطن