ألقى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي كلمة خلال احتفال إعلان "طرابلس عاصمة الثقافة العربية"، جاء فيها: "ايها الحفل الكريم، يطل علينا في هذا اليوم، تاريخ حي نابض في الوجدان، حملته وحمته طرابلس، جيلا بعد جيل. تاريخ ليس من حجر وآثار فقط، بل من مشاعر ناس عاشوا في رحابها، في جيرة المساجد والكنائس، بين البحر والقلعة والأسواق، وعلى امتداد سماحة النفوس، ومضافة الليمون. وشيدوا لهم ولها تراثا من المودة والإيمان، ومن الفنون والعلوم والعمران، فاغتنى بهم أمسها وحاضرها، ومستقبلها الذي سنعمل كلنا ليكون مشرقا بإذن الله.
طرابلس أيها السادة، مدينة ليس كمثلها أخرى، هي المسجد والكنيسة، والمدرسة والتكية، والمكتبة والجامعة، والمستشفى وسوق الفقراء، والخانات والحرف، والقلعة والمعرض، والنهر والبحر، والجزر والهضاب، والأزقة والشوارع، والحارات المملوكية والأحياء الحديثة، وهي أيضا المدينة وكل جوارها، من أعلى الثلج إلى أدنى الملح، ومن أبعد الشواطئ إلى أقرب المرافئ. لكن أهم ما فيها نسيجها البشري الذي تتداخل فيه كل عناصر الوحدة الوطنية. فهي مدينة تجذب إليها أهلها وجوارها والأبعدين، وتصهرهم في العيش الواحد، ليحققوا منها وفيها معنى لبنان الرسالة.
في أواسط القرن العشرين، خرجت الفيحاء من مجتمعها النهري إلى عالم الحداثة. ورافق هذا الخروج حراك ثقافي، كان عميق التأثير في بنية المدينة وتكوين أهلها، بسبب الانفتاح الكبير على الثقافات الأخرى. فأقبل الطرابلسيون على معطيات الحداثة كافة، وسط بيئة من سماحة الفكر واتساع الرؤية وتوافر المقومات، فإذا بطرابلس رائدة في تجديد عناصر تراثها. لكنها بقيت في الوقت نفسه محافظة على هويتها، فكان أهلها أمناء على عروبتهم، ملتزمين حتى الشهادة بقضايا العرب، وفي مقدمها قضية فلسطين وصولا إلى حرب الإبادة التي تشنها اليوم إسرائيل على غزة وأهلها، والاعتداءات المتمادية على الجنوب اللبناني الذي يسعى العدو إلى جعله منطقة محروقة مدمرة غير مأهولة، ولن يستطيع بالتأكيد.
لعل أبرز عنوان لدخول طرابلس في الطور الجديد، هذا المعرض الذي نحن فيه الآن، والذي يحمل اسم الرئيس الشهيد رشيد كرامي. صحيح أن الاستفادة منه بالصورة الفضلى التي يتيحها موقعه وهندسته ووظيفته، لم تتحقق إلى اليوم، لكن من دواعي فرحنا في لبنان، أنه أدرج مؤخرا على قائمة التراث العالمي لدى منظمة الأونيسكو، وهذا يلقي علينا بلا ريب، مقدارا عظيما من المسؤولية للحفاظ أولا على ارث حامل اسم هذا المعرض وثانيا على هذا المعلم المعماري الفريد، واستعماله من ضمن الضوابط الفنية والقانونية المعتمدة، لتحقيق الوظيفة الوطنية التي بني لأجلها.
أيها الحفل الكريم
منذ ثلاثة عشر عاما نزحت إلى طرابلس، كما إلى كل المناطق اللبنانية دون استثناء، أعداد كبيرة من الأشقاء السوريين، الذين باتوا يشكلون ضغطا كبيرا على لبنان الذي احتضنهم، وهو الآن يدعو إلى حل أزمة نزوحهم بإعادتهم إلى وطنهم عودة كريمة آمنة. وهذا الملف وضعته الحكومة على سكة المعالجة الجذرية ، عبر سلسلة من القرارات والخطوات التي بوشر تنفيذها من قبل الادارات المعنية. كذلك فان الوفد اللبناني الى مؤتمر بروكسل سيحمل معه هذا الملف بكل تداعياته ويطالب الدول الاوروبية بتحمل مسؤولياتها المباشرة في هذا الملف .
وهناك ايضا مسؤولية مباشرة على "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، ومطلوب منها التعاون مع الحكومة اللبنانية بشكل حثيث وفاعل لترجمة ما طلبناه عبر وزارة الخارجية، لأننا لن نقبل باي حل لازمة النازحين على حساب لبنان وسيادته او بترك وطننا يتحمل بمفرده أعباء هذا الملف، ولا قدرة لنا في الاستمرار بهذا النزف الذي نعيشه بوجود هذه الاعداد الهائلة من النازحين.
أيها الحفل الكريم
لو طبقنا قاعدة تجديد التاريخ على صعيد السياسة العامة في لبنان، لما تكررت في حياتنا الوطنية الأزمات ذاتها. فحال التعطيل التي نعيشها اليوم ليست سوى تاريخ يعيد نفسه، مررنا بها سابقا ونمر بها اليوم.
بعض أهل السياسة عندنا لا يتعظون من أخطاء الماضي، بل يكررونها ملحقين بالوطن والمواطنين أضرارا كبيرة، في ظل ظروف دقيقة وخطيرة، إن لجهة الوضع المعيشي الناتج عن الحال المالية والاقتصادية، وان لجهة الوضع الأمني الناجم عن تداعيات حرب غزة والعدوان الإسرائيلي المستمر عن الجنوب، أو لجهة الأعباء التي تلقيها مشكلة النزوح السوري على كل قرية ومدينة وحي في لبنان.
فلماذا يصر البعض على استعادة الماضي بدلا من تجديده؟ ولماذا لا نبادر إلى إلغاء حالة التعطيل لكي تتمكن المؤسسات الدستورية من ممارسة دورها، بدءا من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وصولا إلى تفعيل آخر إدارة من إدارات الدولة؟
والسؤال الاهم لماذا الاصرار على السلبية والتهديم ووضع العراقيل امام الحكومة التي تجهد للحفاظ على كيان الدولة ومؤسساتها في انتظار ان يكتمل عقد المؤسسات؟
من طرابلس بالذات اكرر واوكد ان لا مكان لليأس في نفوسنا ونحن عازمون على العمل بعزم وارادة لنتجاوز جميعا بيد واحدة هذه المرحلة الصعبة من تاريخ لبنان، والتخفيف قدر المستطاع من الآم اللبنانيين ووضع الامور على سكة التعافي.
أيها الحفل الكريم
قبل الختام اود أن أنوّه بما قام به وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى الذي نقل إقامته من بيروت إلى طرابلس لمتابعة كل النشاطات والإجراءات المتعلقة بهذه الفعالية، والذي لم يوفر جهدا في سبيل إنجاحها. وأنوه كذلك باندفاع الهيئات الثقافية في المدينة وجوارها لتحقيق الهدف نفسه خدمة للفيحاء ولبنان.
طرابلس تقيم اليوم بفرح عيد تتويجها عاصمة للثقافة العربية، وذلك على الرغم من قساوة الأوضاع التي تحيط بها وبالوطن. فهنيئا لها وللبنان والعرب. عشتم عاشت الثقافة عاشت العروبة عاشت طرابلس وعاش لبنان".