لم أتفق مع أفكار وسياسات ومواقف هنري كيسنجر في شيء. غير أن أستاذنا في القراءات السياسية ممدوح المهيني جعلني في مطالعاته أعيد النظر في البحث وليس في الموقف. ورأيتني للمرة الأولى أقدّر تقييم كيسنجر لاثنين من القادة الذين بُهرت بمواقفهم الأخلاقية، خلال عملي الصحافي، كونراد أديناور، وشارل ديغول. خصوصاً في مفهوم القيادة عند «الرجل الذي كان فرنسا».
عرف ديغول غريزياً بأن النجاح السياسي والفشل مترابطان، وأن التاريخ سيكون القاضي النهائي لكليهما.
يميز كيسنجر في كتابه الأخير عن القيادة بين نوعين مثاليين من القادة: رجال الدولة، والأنبياء. رجال الدولة «يزيدون في الحذر». ويستدعي «الأنبياء» ويرى نظرة متعالية للعالم. ما الضوء الذي تلقيه هذه الفروق على قيادة شارل ديغول، ما يجعل ديغول مثيراً للاهتمام بشكل خاص. إنه قبل أن يظهر كزعيم وطني في عام 1940، كتب على نطاق واسع عن طبيعة القيادة. يستشهد كتابه «حدّ السيف» (1932) بعدد كبير من مفكري السلطة، بما في ذلك غوته، بيرغسون، بيكون، تولستوي، روسو، وشيشرون. نظرة ديغول للقيادة قاتمة. يجب على القائد الناجح أن يزرع الغموض والحيلة. إنه يفرض «الانضباط الذاتي الدائم». والمخاطرة المستمرة، والنضال الداخلي الدائم. يحتاج القائد إلى الأعصاب القوية وضبط النفس الحديدي.
تأثر ديغول بشكل عميق بكتابات هنري بيرغسون، وجادل بأن القائد يجب أن يجمع بين التفكير والحدس والذكاء التحليلي، والشجاعة الأخلاقية.
كتب بعد سنوات عديدة: الرجال العظماء لديهم عقل ودافع. يعمل الدماغ كفرامل على الدافع العاطفي النقي. يتغلب الدماغ على الدافع. قد يتطلب الدافع الشجاعة الأخلاقية. يجب أن يكون القائد منتبهاً للطوارئ، ومستعداً باستمرار للتكيف مع الظروف. قيم ديغول فن الحكم في النظام القديم: «تجنب التجريدات، ولكن التمسك بالحقائق، وتفضيل المفيد على السامي، والسعي لكل مشكلة معينة ليس الحل المثالي، ولكن الحل العملي».
دور القائد هو تحليل الوضع وتحديد الأهداف، ولكن يجب ألاّ يصبح غارقاً في التفاصيل. إنه يعكس، ويتشاور، ويقرر، ولكن بعد ذلك يترك تفاصيل التنفيذ.
يجب أن يكون القائد قادراً على تحريك الخيال وإثارة «الإيمان الكامن للجماهير». تأثرت هذه الرؤية للقيادة الكاريزمية كثيراً بكتابة غوستاف لو بون، الذي أثرت كتاباته عن علم نفس الجماهير على شخصيات متنوعة مثل ثيودور روزفلت، وفرويد، وموسوليني.
مفهوم ديغول للقيادة يناسب كلا النوعين المثاليين من كيسنجر. إنه مزيج من العقل والمشاعر، والكلاسيكية في القرن الثامن عشر، والرومانسية في القرن التاسع عشر.
جسد مزيج قوة الإرادة والذكاء التحليلي والدافع والتفكير بشكل مثالي من خلال الفعل الذي دخل من خلاله ديغول التاريخ في 18 يونيو (حزيران) 1940 بخطابه القصير على هيئة «الإذاعة البريطانية»، والذي يدعو الفرنسيين إلى رفض الهدنة مع ألمانيا، والبقاء في الحرب.
المصدر: الشرق الأوسط