في يومه الثاني من الزيارة الرسولية إلى لبنان، رفع البابا لاون الرابع عشر سقف خطابه، موجهاً نداءً مباشراً إلى اللبنانيين وقادتهم بأن “لا مستقبل بلا مصالحة، ولا نهضة بلا سلام فعليّ يتقدّم على المصالح الضيّقة”. ومنذ اللحظة الأولى، بدا أن الحبر الأعظم اختار الدخول مباشرة إلى عمق الأزمة اللبنانية، في بلد أنهكته الانقسامات والضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
وخلال لقائه الموسّع مع الشباب في بكركي، دعا البابا الجيل الجديد إلى البقاء في وطنهم رغم موجات الهجرة المتصاعدة، مؤكداً أن “الهروب أحياناً يبدو الخيار الأسهل، لكن الشجاعة الحقيقية هي في الصمود، وفي العودة لمن يستطيع”. وقد عكس هذا النداء قلقاً واضحاً لدى الفاتيكان من النزيف البشري الذي يهدّد مستقبل لبنان وتركيبته الاجتماعية، خاصة بعد تضاعف الهجرة في السنوات الأخيرة.
ومن بكركي انتقل البابا إلى مزار سيدة لبنان في حريصا، حيث شدّد على ضرورة أن يكون اللبنانيون “عطر المسيح” في بلد يواجه أعمق أزماته. وقدّم خلال الزيارة “الوردة الذهبية” للمزار، وبارك حجر الأساس لـ”مدينة السلام” التابعة لـ”تيلي لوميار”، في إشارة رمزية إلى دعم الفاتيكان للمبادرات الروحية والإنسانية. إلا أن الروحية لم تُخفِ النقد حين قال البابا إن “المحبة أقوى من الانقسام، لكن الانقسام أصبح عادة سياسية قاتلة”.
وفي عنّايا، حيث ضريح القديس شربل، توقّف البابا عند إرث القديس الذي يوحّد اللبنانيين عبر الطوائف، مؤكداً أن المسيحية اللبنانية تشكل قوة توازن روحي وسياسي في المنطقة. وزيارته هناك اعتُبرت رسالة مزدوجة: دعماً للفقراء والمنسيين من جهة، وتذكيراً للقيادة السياسية من جهة أخرى بأن الناس—not السلطة—هم مصدر الرجاء الحقيقي.
أما المحطة الأكثر صراحة فكانت في القصر الجمهوري، حيث التقى البابا المسؤولين. وهناك قال عبارته الأكثر حدّة: “أنتم شعب لا يستسلم… لكنكم دفعتم ثمن الفساد وسوء الإدارة والانقسامات. آن أوان المصالحة من أجل مستقبل مشترك”. وخاطب أصحاب القرار مباشرة بقوله: “لكم تطويبة خاصة إن استطعتم أن تقدّموا هدف السلام على كل ما عداه”.
وتأتي هذه الزيارة بعد محطة أولى في تركيا، ضمن أول جولة خارجية للبابا بعد ترسيمه، وفي أول زيارة بابوية للبنان منذ عام 2012. وقد تزامنت مع دخول لبنان عامه السادس من الانهيار الاقتصادي، وسط تفشي الفقر، وغياب الإصلاح، واستمرار الأزمة السياسية، إضافة إلى ضغط هائل ناتج عن وجود أكثر من مليون لاجئ إلى جانب سكانه الخمسة ملايين. وهي ظروف جعلت مستقبل الهجرة قاتلاً للنسيج الاجتماعي والاقتصادي.
وفي ختام اليوم الثاني من زيارته، أطلق البابا رسالة تتجاوز البروتوكول، مبنية على أربعة أعمدة أساسية: سلام، مصالحة، صمود، وبقاء. لكنه ختم بجملة بدت كأنها خلاصة تشخيصه لواقع لبنان: “الناس صامدون… والدولة هي التي تتركهم يسقطون".