يعرف المبعوث الرئاسي ووزير الخارجية الفرنسي السابق جان- إيف لودريان أنّ زيارته ربوعنا ستقتصر على ما تيسّر من اللقاءات، ليسمع ما كان قد سمعه في الزيارات الأربع السابقة، بالطبع مع إضافات منبثقة من التطورات التي فرضتها «حرب المشاغلة» وربط توقفها بتوقف الحرب على غزة، وكذلك استدعاء خطر النزوح السوري الذي استفاق عليه أهل المنظومة لإلهاء اللبنانيين عن فتح جبهة الجنوب، مع أنّ معالجته كانت تستدعي منهم، ومنذ أعوام، هذا النشاط الذي بات محكوماً بالغرضية والاستنسابية.
لكن البضاعة التي يتباهى أهل المنظومة بعرضها على لودريان تتزامن مع مراحل انتقالية، وفي عواصم قرار تتحكم بورقة لبنان المغلوب على أمره، وتحديداً مرحلة ما بعد الحادث الذي أطاح طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وأودى بحياتهما، وتداعيات ذلك على صلب وراثة المرشد الأعلى، وما ستؤول إليه أحوال الجمهورية الإسلامية لجهة الانفتاح على المملكة السعودية، أو لجهة الحوار مع الولايات المتحدة التي استمرت رغم حرب غزة، وتوقفت مع حادث الطائرة.
وفي الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل الإرباك الأميركي، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في ظل تصاعد الأزمات والتطورات غير المتوقعة، سواء على الجبهة الإسرائيلية التي تنفلش تداعياتها على وسع المنطقة أو لجهة ترقب مرحلة ما بعد رئيسي وما يمكن أن يتأتى في الملف الإيراني.
لذا لن يشتري لودريان... فهو الأعلم بالتأكيد بعبثية ترويج معلومات تفيد بأنه سيبحث تشاوراً أو حواراً أو طرحاً جديداً لحل أزمة الشغور الرئاسي، وحث الأفرقاء السياسيين الفاعلين للتوافق على مرشح ثالث غير الوزير السابق سليمان فرنجية وقائد الجيش العماد جوزاف عون.
وهو الأعلم بأنّ رأس المحور الإيراني لم يعد المؤثر الوحيد على مصير الرئاسة بعد حرب غزة التي فاقمت العقبات التي تعيق مساعي المبعوث الفرنسي لإنهاء الفراغ. فقد طرأ تنفيذ القرار 1701 على الأجندة، لذا قد تكون الأولوية لبحث الورقة الفرنسية بشأن جنوب لبنان وانسحاب «حزب الله» إلى شمال الليطاني وتسليم الجيش اللبناني مهمة ضمان أمن الحدود مع الكيان الصهيوني، مع أنّ الكلمة الأخيرة في هذا الشأن تبقى للولايات المتحدة، ومن دون إغفال خطر الخطوة التالية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن جبهته الشمالية، بعد جرائمه ومجازره وإصراره على إبادة الشعب الفلسطيني، فهو سيواصل البحث عن حروب تؤجّل لحظة الحقيقة التي ستضعه في قفص اتهام؟ هذا عدا الترتيبات الدولية والإقليمية لما بعد غزة، وحرص الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية على ضمان أمن إسرائيل، حتى من دون نتنياهو.
بالتالي لا يمكن التعويل على الزيارة، التي لا يقدم ولا يؤخر في نتائجها اتصال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بولي عهد المملكة السعودية الأمير محمد بن سلمان، ولن تحمل ما يمكن لماكرون بحثه مع استقباله نظيره الأميركي جو بايدن في النورماندي في 6 حزيران المقبل.
والعقم الدبلوماسي لزيارة لودريان يستند إلى التصعيد المرافق للمراحل الانتقالية، ومواصلة العدو الإسرائيلي إبادة الشعب الفلسطيني بإجرام أكبر متحدياً القرارات الدولية التي تدينه، وتحديداً تلك الصادرة عن المحكمة الجنائية أو عن محكمة العدل الدولية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو لبنان بأزماته المتوالدة أشبه بمركب غارق في محيط المراحل الانتقالية. وقطعاً لن تفيد نداءات الاستغاثة والتحذيرات والتهديدات بفتح البحر. ولعل لودريان سيلتزم الصمت وهو يسمع، ومن ثم سيكتفي بلفت نظر من سيقابلهم إلى أن الرهانات السابقة فقدت صلاحيتها، ولبنان الغريق صار بعيداً عن تشكيل خطر إلا على نفسه.
المصدر: نداء الوطن