أخذ ملف النزوح السوري الذي يثقل كاهل الاقتصاد اللبناني منذ عام 2011 ويزيد من تفاقم أزمته الاقتصادية المالية، يتحوّل إلى مادة رئيسة للتوظيف السياسي الداخلي والخارجي، رغم أنّ هذا الملف يتسم بأهمية توازي التوصيف الذي يعطيه إياه حتى الذين يحاولون استثماره في السياسة. على صحّة التوصيف الذي يعتبر أنّ مأزق النزوح السوري يتسبب بخطر وجودي على لبنان، نظراً إلى انعكاساته السكانية والديموغرافية والمعيشية، فإنّ ما يكشف القصور عن معالجته هو تزامنه مع العجز السياسي الكامل للقوى السياسية النافذة في الدولة اللبنانية عن رسم طريق واضح للخروج من الأزمة السياسية الداخلية. وبغياب مؤسسات تعمل وفق الآليات الطبيعية يستحيل أن تستقيم المعالجة المطلوبة، من دون أن يعني ذلك أن المواقف المحذِّرة من خطورته، ليست منطقية أو حقيقية.
بعض المواقف لا يتوافق مع درجة الخطورة التي تعبّر عنها المخاوف الفعلية والمفهومة لقيادات رئيسة. كما أنّه لا يتوافق مع مبادئ السعي للتصدي لمخاطر النزوح الراهنة والمستقبلية بعيداً عن منطق التحريض العنصري الذي بات البعض يستسهله، أو ينزلق إليه، بفعل العبء الثقيل لأزمة النزوح والتعبئة التي يشهدها البلد طائفياً ومذهبياً وعقائدياً، وسط ضياع الصلاحيات وتشابكها، ورمي المسؤوليات يميناً ويساراً، بحق ومن غير حق.
منهجية توجيه الاتهامات إلى هذا الفريق أو ذاك، وهذه الجهة الرسمية أو تلك، ليست سوى استقالة من المسؤولية السياسية الفئوية والجماعية عن رسم مسار المعالجات المطلوبة. فالأزمة باتت عميقة وازدادت تعقيداً مع تردي الوضع الاقتصادي، إلى درجة تمكّن من يريد توظيفها سياسياً في الداخل أو على الصعيد الإقليمي، من التعمية عن جوهرها، بحيث يصبح المواطن العادي غير قادر على التمييز بين المحق والمذنب والمقصر في التصدي لها.
من نافل القول إنّ أحد أبرز مظاهر التوظيف السياسي لمشكلة النزوح هو الحملات المتواصلة من قبل رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل على الجيش وقيادته لأسباب متصلة بانتخابات رئاسة الجمهورية. وهذا مثل من الأمثلة الكثيرة التي تظهر في الكثير من التصريحات من وزراء ونواب وقادة أحزاب. ولا يحتاج الأمر إلى كبير عناء لاكتشاف مدى إفادة «التيار» من موجة النزوح الاقتصادي التي حصلت بكثافة في الأسابيع الماضية، والتي جرى تظهيرها في الإعلام أفلام فيديو وصوراً وبيانات عن قصد، من أجل استهداف قائد الجيش العماد جوزاف عون كمرشح للرئاسة، يرفضه «التيار الحر» ويخشى منه، مثلما يرفض سليمان فرنجية.
فباسيل شاء أم لم يشأ، وقع في المصيدة، لمجرد أنّ «حزب الله» ترك للتسريبات عن أنّه لا يمانع في تولي عون الرئاسة أن تأخذ مداها، من دون أن يلزم نفسه بأي حرف أو إيحاء، بأنّه فعلاً مع هذا الخيار، طالما يردد أمام الموفدين ويسرب لوسائل الإعلام أنّه باقٍ على خياره بدعم فرنجية. وفيما تجمع أوساط متابعة عن قرب لما يحيط بمسألة الفراغ الرئاسي على أنّ «حزب الله» لم يزعجه الضجيج الإعلامي عن تكرار تلك العبارة التي يلهي السياسيون بها الرأي العام، والتي تتحدث عن «تقدم أسهم القائد»، كإحدى وسائل الضغط على باسيل كي يستدير ويوافق على سليمان فرنجية. فـ»الحزب» سبق أن أبلغ باسيل مطلع صيف 2022 وقبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، أنّ الخيار بين فرنجية وبين القائد، لتشجيعه على القبول بالأول، نظراً إلى معرفته بمدى حساسيته المفرطة حيال الثاني. والأرجح أنّ «الحزب» يعود إلى اعتماد المناورة إياها لترك الشكوك تساور باسيل لعلّه يعدل من توجهاته، لا سيما بعد التسريبات عن أن بعض دول الخماسية قال «لا مانع» على خيار العماد عون. والحقيقة التي يتصرف على أساسها «الحزب» تكمن في أن الظروف «لم تنضج بعد... وعلينا الانتظار...» لإنهاء الشغور القاتل في الرئاسة. وأكثر من يدرك هذه الحقيقة «الحزب» نفسه.
ليس باسيل وحده من يستسهل الانزلاق إلى لعبة التوظيف السياسي لأزمة وجودية وقضية كبرى وخطيرة كأزمة النزوح السوري في إطار معركة الرئاسة. كثرٌ غيره يفعلون ذلك سواء صراحة أو بالصمت، فيخترعون المواقف التي تهدد بالويل والثبور إما حباً بالظهور، أو محاباة للرأي العام، أو مراهنة على أن يبقيهم أي مخرج من الفراغ في مواقعهم أو يرقيهم إلى ما هو أعلى منها. بئس السياسة في لبنان...
*المصدر: نداء الوطن