حين كتب جورج نقَّاش: «نفيان لا يصنعان وطناً»، كان على حق، فهذا «الوطن» يتخبط في التأسيس وما بعد التأسيس، منذ ثلاثة أرباع القرن، على كل المستويات، ولا يزال. كذلك، «مأزقان لا يصنعان حلاَّ»، ينطبق هذا القول، المقتبس بتصرف، على الأزمة الناشئة بين الحكومة والمتقاعدين، هذه الأزمة ليست وليدة اليوم، بل هي مزمنة تعود إلى «نظام التقاعد» في لبنان، والذي يشكِّل نزيفاً مرهِقاً للإيرادات، وكلما تقدمت السنون، كلما استفحلت هذه الأزمة.
نظام التقاعد المعمول به في لبنان، لا مثيل له في العالم. ففي العالم، حين يصل الشخص المعني إلى سن التقاعد، يُعطى راتباً معيناً، لمدة معيَّنة، إلى حين إيجاد عمل له، وما لم يتوافر هذا العمل، يوضَع في فئة «العاطلين عن العمل» ويُصرَف له مبلغٌ مقطوع إسوةً بهذه الفئة. في لبنان، يبقى المتقاعِد يتقاضى راتباً حتى الوفاة، الذين يخرجون إلى التقاعد، سنوياً، يناهز عددهم العشرة آلاف، ولا بد من إدخال بديلٍ منهم. نحن إذاً أمام عشرين ألف راتبٍ شهري إضافي كل سنة.
كان الأمر محتملاً، إلى حدٍّ ما، قبل الأنهيار المالي في تشرين من العام 2019، وأكثر من ذلك، دُقَّ ناقوس الخطر عام 2017 حين أُقرَّت سلسلة الرتب والرواتب، بما شكَّل ضربةً قاسمة لخزينة الدولة. سأل رئيس الجمهورية آنذاك العماد ميشال عون، عن كلفة السلسلة، فجاء الجواب، من وزير ونائب معنيّيْن، بالأرقام والكلفة، أنها تكلِّف 800 مليون دولار، وأن إيراداتها متوافرة، على هذا الأساس وقَّع رئيس الجمهورية على السلسلة، وعند بدء التطبيق بدأت الكارثة، إذ تبيَّن أن الكلفة هي أكثر من ذلك بكثير، حيث بلغت ملياراً ومئتي مليون دولار، لم يعد بالإمكان التراجع عنها لأنها أصبحت «حقاً مكتسباً»، وفي المقابل لم يكن بالإمكان توفير إيراداتها، منذ ذلك التاريخ تسارع الأنهيار.
اليوم يكاد التاريخ أن يعيد نفسه، فنكون أمام «كارثة سلسلة رتب ورواتب جديدة»: بالأرقام، ما يقارب الـ350 ألف لبناني يتقاضون رواتبهم من الخزينة اللبنانية، بين مدنيين وعسكريين. عشرات الآلاف من هؤلاء «دخلوا إلى الدولة» عبر المحسوبيات والتوظيف السياسي، من دون الحاجة إلى الكثير منهم، ما جعل القطاع العام ملاذاً لمن لا وظيفة له في القطاع الخاص.
المأزق اليوم أن الظرف ليس ظرف القول للكثيرين أنهم «عالة» على خزينة الدولة، وأنه يستحيل صرفهم من الخدمة، خصوصاً أنّ رواتبهم فقدت قيمتها بعد انهيار قيمة الليرة من 1500 للدولار إلى 89000 ليرة للدولار، هذه الإستحالة ليست وحدها، هناك استحالة ثانية تتمثل في تلبية ما يطلبه المتقاعدون. الأرقام هنا ليست وجهة نظر على الإطلاق، الحكومة غير قادرة على تلبية ما يطلبه المتقاعدون، تحت أي ظرفٍ من الظروف، والمتقاعدون ليسوا في وارد التراجع عن مطالبهم. كيف سيكون الإنفجار؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه بقوة.
المصدر: نداء الوطن